على باب المطار يصطدمان، يتراجعان إلى الوراء ويتبادلان النظرات التائهة والأسئلة الحارقة التي لم تنفك تبحث لها عن جواب مند زمن بعيد بدون جدوى. يسترجعان أولى البدايات، كيف كان عقله متعلقا بأروبا، يحكي لها عن تحضر أبنائها وعن أمجادها، يحدثها بحماس عن تاريخها، يصف لها بدقة أحداث الثورة الفرنسية وعِبرها المستقاة، يسرد على مسامعها بافتخار أقوال روسو وفولثير وماركس وكانط وغيرهم.
كان غربي الهوى والروح، عربي الشكل والملامح، كانت هي تنظر إليه كالغريب، لم تفهم يوما إصراره الشديد على الرحيل مع أنه يمتلك وسائل النجاح في بلده، إنه في سنته الدراسية الأخيرة ويُشهد له بالتفوق ويمكن له إن أراد أن يشتغل أو يتابع دراسته.. سألته يوما عن سر هذا الشغف العارم بهذا العالم البعيد، كان جوابه مقتضبا:" أريد أن أصير إنسانا".
تطلعت إليه بعد طول غياب وانقطاع للأخبار وتحسست ذلك الاشتياق الكبير للوطن بعدما كان يقسم أنه سفره بلا عودة. تأمل شعرها الذي يداعبه الريح في كل اتجاه كروحه المعلقة بين بلدين، استنشق عطرها الفائح بعمق كأنه قطعة من الوطن، ثم تنبه إلى حقيبتها بعينين حائرتين وقلب مكسور وقال بحشرجة: " إلى أين ؟".
دق جرس النداء الأخير، ترجلت بخطى ثابتة نحو مدرج الطائرة وهمست في أدنه بصوتها العذب الرنان :" إلى حيث أصير إنسانة".