ليلة صابر الأخيرة - قصة قصيرة نشرتها لي الشروق العربي في 13-20 سبتمبر 1991 - داخل الى 18 سنة .. الثالثة ثانوي
تتابعت خطواته عشوائيا في الظلام ,لكنها مصيرية ,كل خطوة يتقدمها تبعده عن زمن سابق يحاول أن يهرب منه ,وتتابعت الأفكار أيضا على شريط مخيلته كتتابع أعمدة الجسر الذي يمشي عليه ,غريب أنا في هذا العالم - قال صابر - لم أكن أبدا واقعيا ,لكنني عشت الواقع بكل آلامه ووخزاته المحرقة ,الكل يتحرك بجنون المادة ,كل الحياة من حولي تغلي وتفور .. وأنا وحدي غارق في شرنقة حريرية نسجتها من خيوط خيالي ولونتها بألوان الطيف الصافية .. وجهي وحده الذي دامت على سطحه الإيتسامة وسط كل الوجوه التي أعبستها المعيشة وارتسمت فيها وبكل وضوح بطاقات الأسعار الداكنة .. كم نصحني اصدقائي أن أنزع عن عيني نظارتي الوردية وأرى العالم بوضوح وحاولت ,لكنني لم أقدر رغم استفزاز نظرات الإحتقار التي كنت أقرؤها في عيون الناس ,حتى في عيني أقرب أقربائي ... زوجتي ,كم حاولت أن أثبت لهم جميعا أن المثالية سوف تنزل إلى الواقع وأنني أبدا لن أتغير ,بل يجب أن يتغير الكل وأبقى ثابتا ,فجأة وجدت أن الإعصار قوي ,أقوى من أن يسمع صرخة ضعيف مثلي .. رأيت الكل انحنى له كالأعشاب لكي لا تكسر ووحدي بقيت صامدا ,عنيدا ,وازداد الإعصار قوة وازددت عنادا ثم كسرت . تنهد صابر ووقف على الجسر يتأمل البحر الصاخب تحته - ثم عاوده الخيال من جديد : فعلا كسرت ,لقد تركت إبني مع أمه التعيسة في شبه بيت لا أعرف إن كانت لهما لقمة للعشاء أم لا ... وفجأة تذكر أحد أصدقائه القدامى المشكوك فيه ,تردد ... ثم انطلق اليه .
- في صباح يوم انتشر في البلد خبر رجل رمى بنفسه من الجسر
- وفي صباح يوم آخر وصلت لإمرأة تعيسة رسالة من زوجها لم تفهمها إلى حد الآن قال فيها : - إنني لم أنتحر لكن المباديء انتحرت داخلي ! -
- وفي صباح يوم آخر سمع حارس سجون من إحدى الزنزانات المظلمة صوتا يقول : إنّ تلك الشرنقة الحريرية أحسن ألف مرة من هذه الزنزانة المظلمة ,وكم كنت غبيا عندما حسبت أن تلك الليلة ليلتي الأخيرة بل هي ليلتي الأولى !