تَقَدَمَ عَبْرَ الشارِع الذي يفصِلُ بيننا وبينَ جامع النوري بخَطواتٍ مرتعبة. ملابِسُهُ الرثة لا تغطي جسدهُ النحيف ولحيتهُ البيضاء غطتْ عنقَه. حاولتُ التمعُن في وجهه.. في عينيه وبندقيتي مصوبةٌ تجاهه. . أتراهُ عدوٌ أم صديق؟ لا شئ يوحي بِأنَه منْهُم. هل أرمي لأقتله قبلَ أن يفَجرَ نفسه بين الجنود؟ لحظاتٌ لمْ تفارق عيناي قميصَه الأسود وأنا أرقبُهُ يتقدم ويصرخ .. لا ترمي .. لا ترمي .. مَلَأ الترقُبُ كل من كان معي .. وكنتُ أرى العيونَ ترقُبُني في تساؤل .. هل نقتله؟ أليسَ الواجِبُ يحتمُ علينا أن نحميَ أنفسنا؟ سمعتُ أحدهم يَصرخ .. سيدي .. سيدي .. نظرتُ في وجهه .. أِنتظروا .. دعوه يتقدم أكثر .. وتقدَمَ الرجُلُ بخطواتٍ متعثرة .. بدا الخوفُ والهلع ظاهرين عليه .. صرخت بأعلى صوتي.. قِفْ .. قِفْ وأِلا أطلقتُ النار .. قف وانزعْ قميصَك .. لا تتقدمْ .. قفْ مكانك .. لكنَ الرجل لم يستجبْ .. وظلتْ خطواته المترنحة تتواصل باتجاهنا .. أمجنونٌ هذا الرجلْ؟ .. لِمَ لا يستجيبُ لندائي؟ .. تعالى صوتُ الجندي الذي بقربي .. سيدي .. سيدي.. أِقترب الرجل أكثر وأكثر وأكثر حتى تلاشت المسافات بيننا وبين الموت المرتقب .. رفعتُ رأسي عن الساتر الذي يحميني لأصرخ فيه للمرة الأخيرة .. أِلا أنه لم يستجبْ .. وفجأة أِنطلقت رصاصتان .. ووقَعَ الرجلُ أرضا .. مَنْ أطلق النار؟ .. أيُها الأحمق .. لمْ اّمر أحدا بأِطلاق النار .. تسمرَ جميع الجنود في أماكانِهم .. سمعتُ اَهاتِهِ وصرخاتِه .. تحركتُ من خلف الساتر واقتربتُ منهُ زاحفا .. لم يكن يحملُ حزاما ناسفا .. لا زالت قنينة الماء في يده والاخرى تمسك بكسرة خبز .. كان مبتسما عندما أغمضَ عينيه وكأنه أستعد للحظة الخلاص .. طلقتان اخترقتا جسده احداهما من الخلف .. فتحتُ أزرارَ قميصِه .. تَلَألَأ الصليبُ على صدرِهِ الدامي.