الفصـل الرابـع - أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة
هناك أحكام وآداب تتعلق بقضاء الحاجة في البر والخلاء ، وهناك أحكام وآداب تتعلق بقضاء الحاجة في البيوت والعمران. وقديماً أطلق الفقهاء على هذا الفصل آداب التَّخلِّي، يعنون بذلك أحكام الأفعال التي يُقام بها حين التبوُّل والتَّغوُّط.
أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة في الخلاء
1- يُسنُّ لمن أراد التبوُّل أو التغوُّط في الخلاء أن ينطلق بعيداً عن أعين الناس خاصة إذا أراد التغوط، بحيث لا يرى عورته أحد، ولا يُسمَع منه صوت، ولا تُشَمُّ منه رائحة، لحديث جابر قال «خرجنا مع رسول الله في سفر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتي البرَاز حتى يتغيَّب فلا يُرى» رواه ابن ماجة . ورواه أبو داود ولفظه «انطلق حتى لا يراه أحد» وهذا الحديث رجاله رجال الصحيح، إلا إسماعيل بن عبد الملك قال فيه البخاري (يُكتب حديثه). وروى النَّسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد» قال الترمذي (حديث حسن صحيح).
2- ويُسن أن يستتر بشيء وأن يطلب مكاناً منخفضاً - وهو ما يسمى لغة بالغائط، إذ الغائط هو المكان المنخفض - بحيث يختفي عن الأنظار. وقد جرى التوسُّع في استعمال لفظة الغائط حتى صارت تطلق على البِراز نفسه، وعلى عملية التبرُّز، فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يرتاد لبوله مكاناً منخفضاً يتوارى فيه، وكان يتَّخذ لحاجته سِتراً ، فعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال «... وكان أحبَّ ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هَدَفٌ أو حائشُ نخل» رواه مسلم وابن ماجة والبيهقي وابن حِبَّان. قوله الهدف: أي كل مرتفع من كُومة رمل أو صخر أو جبل . وقوله الحائش: أي مجموعة أشجار متقاربة تستر مَن يقف خلفها. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فلْيستدبرْه فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج» رواه أحمد والبيهقي. ورواه ابن ماجة وأبو داود جزءاً من حديث. قال ابن حجر (إسناده حسن).
3- وإذا لم يكن مع المسلم ماء أخذ معه ثلاثة أحجار أو أكثر ، إلا أن تكون الأرض ذات حجارة فيأخذ الحجارة منها، ويُغْني عن الأحجار أيُّ صلب طاهر أملس يصلح للإنقاء. أَمَّا أنْ يكون صلباً فلأنَّ المَدَر من التراب مثلاً إذا ابتلَّ تفتت فلم يُزِل النجاسة، وأَمَّا أن يكون طاهراً فواضح، فالنجس لا يصلح للتطهير، وأَمَّا أَنْ يكون أملس صالحاً للإنقاء فلأن الحجارة الخشنة مثلاً لا تصلح لإزالة النجاسة، وربما جرحت الموضع.
قد يُقال بوجوب الاستطباب بالحجارة فحسب دون سواها من الأشياء لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر سواها، ولم يُنقل أنه استعمل غيرها فتكون هي المطلوبة وحدها، فنجيب على ذلك بالحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «إنما أنا لكم مثل الوالد أُعلِّمكم، إذا ذهب أحدكم إلى الخلاء فلا يستقبل القِبلة ولا يستدبرها ولا يستنج بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الرَّوث والرِّمَّة» أخرجه النَّسائي وابن ماجة وابن خُزَيمة والبيهقي. قوله الرِّمَّة : أي العظم البالي، والمراد مطلق العظم. فهذا الحديث استثنى الروث والرِّمَّة من المواد الصالحة للاستجمار، وتخصيصهما بالنهي هو دليل على صلاح ما سواهما، إذ لو كان الأمر بالاستجمار محصوراً بالأحجار فقط لنهى الرسول عليه الصلاة والسلام عما سواها مطلقاً ولم يخصِّص، ولَمَا كان لتخصيص الرَّوث والرِّمَّة بالنهي فائدة.
وبذلك يظهر أن كل ما يصلح لإزالة النجاسة يجوز الاستجمار به كالخشب والورق والخِرق والمعدن، وما ذِكْرُ الحجارة في الأحاديث إلا من باب الأعمِّ الأغلب لا غير . وقد سبق أن بيَّنَّا أن الغاية من الغسل، أيِّ غسلٍ، هي الإنقاء، ونقول هنا إن ثلاثة من الأحجار ليست مقصودة لذاتها بقدر ما يُقصد بها الإنقاء، فإن تحقَّق الإنقاء بثلاثة أو أكثر أو أقل فقد حصل المطلوب، ولا يجب فيه عدد مخصوص.
4- ويُسنّ لمن أراد التخلي أن يرتاد المكان الرَّخو حتى لا يصيبه رشاش البولِ للحديث الذي مرَّ سابقاً وفيه «أما أحدهما فكان لا يستتر من البول» ومدلول القول هذا أن من بال في موضع صلب لم يأمن رَشاش البول، فيقع تحت النهي الوارد في الحديث، ولذا وجب أن يبول في مكان رخو ذي تراب ناعم، إلا أن يبول على سطح صلب مائل يبعد عنه الرَّشاش فلا بأس. فالعبرة هي الاستتار والتَّنزُّه من رشاش البول، فهو العلة ، فكل ما يحقق الاستتار والتَّنزُّه واجب.
5- ولا يجوز لمسلم أن يتخلَّى في ظـلٍّ يستظلُّ فيه الناس، أو فــي طريق يسلكها الناس، أو في مكـان يجلسون فيه ، لأن فيه إضراراً بالناس وهو لا يجوز، وللحديث الذي رواه أبو هريرة أن رسول الله قال «اتَّقوا اللعَّانَيْن، قالوا : وما اللعَّانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلَّى في طريق الناس، أو في ظلهم» رواه مسلم وأحمد. ورواه أبو داود والبيهقي بلفظ
«اتَّقوا اللاعِنَيْن، قالوا: وما اللاعِنان؟». قال الخطَّابي: المراد باللاعِنَيْن الأمران الجالبان للَّعن الحاملان الناس عليه والداعيان إليه، وذلك أن مَنْ فعلهما لُعن وشُتم، يعني عادة الناس لعنه، فلمَّا صارا سبباً أُسند اللعن إليهما على طريق المجاز العقلي. أما إن كان الظِّلُّ لا يصل إليه الناس أو لا يستظلون فيه فلا بأس بالبول فيه.