والناظر في هذه النصوص يتوهم للوهلة الأولى أن هناك تعارضاً بينها يستوجب الذهاب بسببه إلى القول بالنَّسخ ، فيقول إن أحاديث الاستقبال نسخت أحاديث النهي، لا سيما وأن الحديث الثامن هو المتأخر ، والمتأخر ينسخ المتقدم. ولكن حيث أن إعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها، وحيث أنه لا يُقال بالنسخ إلا عند تعذُّر الجمع، وبالتدقيق في هذه النصوص نجد أن الجمع والتوفيق بينها ممكن، وأن أحاديث النَّهى تُحمل على الفضاء والصحراء، وتبقى أحاديث الاستقبال والاستدبار معمولاً بها في البيوت والعمران. ذلك أن أحاديث الاستقبال والاستدبار تصلح لتخصيص عموم النهى الوارد في عدد من الأحاديث ولا تنسخها، والقول بالتخصيص أولى من القول بالنسخ، يشهد لهذا الفهم أمران اثنان:
أ - إنَّ الأحاديث التي ذكرت الاستقبال والاستدبار واضح فيها بالقرائن أنها في البيوت والعُمران بدلالة «فرأيت كنيف رسول الله صلى الله عليه وسلم» و « على لَبِنَتين مستقبلَ بيت المقدس» و «استقبلوا بمقعدتي القِبلة» فهذه النصوص تعالج الاستقبال والاستدبــار فـي البيوت، لأن الكُنُف واللَّبِنــات تكون فــي البيوت والعُمــران، وحديــث ابن عمــر الثالــث يفيد المعنــى نفسه، إذ يقـول ابن عمــر «رَقِيتُ على بيت أختي حفصة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلمقاعداً لحاجته» والمعلوم أن بيت حفصة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع في وسط بيوت المدينة إلى جوار المسجد، ولا يُتصوَّر أن يرى ابن عمر وهو على ظهر بيت أخته رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يبول أو يتبرَّز ، إلا أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قريباً منه في أحد البيوت وليس في الصحراء، لا سيما وأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا ذهب لحاجته أبعد وتغيَّب حتى لا يُرى.
ب - الحديث السابع نصٌّ صريح في التفريق بين الصَّحراء وبين العمران، فقول ابن عمر «إنما نُهي عن ذلك في الفضاء» وإن كان قولاً لصحابي ، إلا أنه يأخذ حكم الرفع بدلالة لفظة ( نُهي)، فهذه اللفظة تدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي نهى عن ذلك في الفضاء، ومفهوم النص هذا أن النهي لا يشمل البيوت والعمران ، أي بدلالة مفهوم المخالفة. فهذان الأمران يفيدان أن النهي عن الاستقبال والاستدبار إنما هو في الفضاء، أي في الخلاء وليس في البيوت، وعلى هذا المعنى يُحمل الحديث الثامن، أي أن جابراً لا بد وأن يكون قد رآه في البيوت وليس في الصحراء، أي يُحمل الحديث العام على الأحاديث المخصِّصة.
بقيت شُبهتان لا بد من التنويه بهما، هما:
أ - من أين جاء القول إن اللَّبِنَات والكُنُف تكون في العمران؟
ب - كيف نفسر قول أبي أيوب الأنصاري «فوجدنا مراحيض قد بُنيت قِبَل القِبلة فننحرف عنها ونستغفر الله »؟.
أما الشبهة الأولى فإنه وإن كان الواقع يكشفها، فإن عندنا نصاً يزيلها، هو ما جاء على لسان عائشة في حديث الإفك الطَّويل «... فخرجتُ أنا وأم مِسْطح قِبَل المناصع مُتَبَرَّزِنا، لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتَّخذ الكُنُف قريباً من بيوتنا ...» رواه البخاري ومسلم وأحمد . والدلالة واضحة.
وأما الشبهة الثانية فهي أن قول أبي أيوب وفعله وفعل عدد من الصحابة تحتمل أن هؤلاء الصحابة لم يصلهم التخصيص، فظلوا يعممون حكم النهي، وهو على أية حال لا يخرج عن كونه فهماً لصحابةٍ ، وليس دليلاً يصمد أمام الأحاديث المرفوعة.
بقي الحديث التاسع « من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج» فهذا النص هو قرينة تصرف أحاديث النهي إلى الكراهة، وليس إلى التحريم كما يقول مالك والشافعي، وأحمد في إحدى الروايات عنه، وإسحق والشعبي.
والخلاصة هي أن المكروه هو استقبال القِبلة أو استدبارها في أثناء قضاء الحاجة في الخلاء دون اتخاذ سترة، أما إن اتخذ سُترة له ثم استقبلها أو استدبرها فلا حرج عليه بعد ذلك، كمـا أنه لا حـرج عليه في استقبال القِبلة واستدبارها في البيوت، لأن الكُنُف لا قِبلـة لها.