( اللهم إليكَ أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس. يا أرحم الرّاحمين: أنتَ رَبُّ المُسْتَضعين وأنتَ ربي. إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ! أم إلى عدو ملكته أمري ؟ ربِ إن لم يكن بي علي غضبٌ فلا أبالي . ولكنّ عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل عليَّ غضبك، أو تحل علي سخطك. لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلاّ بك.)
كان هذا دعاء وابتهال ومناجاة ، وبث هموم وآلام وعجز، وإعلام من العاجز للعليم علام الغيوب، إعلام له بما هو أعلم، ايصال رسالة وصلت قبل ارسالها، والمقصود من الرسالة المناجا ة والاعتذار ، وبث واقع ما يعتريه من قلة الحيلة والوسيلة، مناجاة تحمل في سطورها وبين طياتها أقوى درجات الإيمان ومراحله. نعم: دعاء كلّه ايمان بالخالق السميع البصير العليم، عالم السِّر وأخفى، دعاء الضعيف الذي لا يملك من أمر نفسه شيئاً ، إلى من يملك بيده ناصية الأمور، دعاء من استنفذ الأسباب إلى من أوجد الأسباب والمسببات، دعاء المضطهد المعذب إلى المعز الناصر المنتقم الجبار ، دعاء من آمن بأنّ الناس مهما بلغت كياناتهم قوة وجبروتاً وطغياناً ، وملأ انفسهم بذرة الشر والانتقام والجبروت موصلة اياهم لحالة العزة بالأثم ، فإنّ فوقهم المالك الحقيقي للعزة والجبروت، ومن له وحده القوة الحقيقية، ومن هو قادر على التغيير متى وأين شاء.
بعد تلك المناجاة الفريدة في نوعها، الرائعة في أسلوبها، المؤثرة في مناسبتها، مناجاة العبد المتذلل للخالق المعين المنتقم الجبار، مناجاة لا للانتقام والثأر ، لا بل مناجاة ودعاء وتوجه إلى الذي حُقَّ للجبال أن تخرَّ لهُ سُجّداً، فكان لا بُدَّ أن يأتيه جواب السّماء، فمن يسأل ينتظر الجواب، وكان الجواب الحق من ربّ السماء بأنّ الله قد سمع دعاء وابتهالات وتضرع رسوله ، لذا فسيُعَلمَهُ من آياته الكبرى أنّ النصر لا يأتي إلاّ بعد تعسر والأمور وتعقدها، وبعد أن تشتد المحن والكروب والمصائب، والنصر يأتي من الله لا من عمل العبد، فيأتي بعد أن تعيي الانسان الحيلة، ومن البديهي أنَّ الله قادر على أن أن ينعم على رسوله بالنصر المؤزر والتمكين دون أي عناء أو جهد، وبدون امتحان يعقبه صبر، وبدون صبر جائزته المغفرة........
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾
﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾
ولكنها سنة الله وإرادته، ولن تجد لسنة الله تبديلا، فكما أنّ جفاء البشر ومقاومتهم للدعوة لا يعني نقطة المنتهى، وهنا جوهر الرسالة : بشارة السماء أتت بعد استفراغ الجهد في ابتكار الارهاصات : سيُسرى بك إلى القدس لتصلي بالأنبياء في المسجد الأقصى المبارك وما حوله، وإلى السّماء سيعرج بك ، وسترحب بك السماء وتحف بك ملائكتها، وسأريك من آياتي وقدرتي ما يعطيك القوة والدفعة المحركة على معاودة الكفاح والدعوة، والصبر على الصد والأذى، ولتعلم أنّ الله الذي أنعم عليك بالمعجزة لقادر على أن ينصرك ويعزك ويمكنك ، وقادر على أن يدك عروش الشرك والطاغوت وكيانات الجهل وعمي البصيرة. ولكنه تشريع السماء ، تشريع لك طريق سير ملزم لمن يأتي بعدك أن يتعلم منه، وأن يتقيد به لا يحيد عنه قيد أنملة. تشريع بأن يكلك أن تنتهج في عملك الأسباب تربطها بمسبباتها، مجتهداً ومكافحاً وداعياً إلى الله بالحق، حتى إذا آن الأوان أرسلنا اليك النصر، وأنعمنا عليك بالأمن، وتبديل الخوف أمنا.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
وفي هذا تشريع للمؤمنين من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم بأنّ الله قادر على نصر عبده إن شاء ومتى شاء، ولكنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم دالة على طريقته، والطريقة هي حكم شرعي ملزم، لا يجوز الانحراف عنها أو مخالفتها: ( حدثنا إسمعيل بن بشر بن منصور وإسحق بن إبراهيم السواق قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي أنه سمع العرباض بن سارية يقول
وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا قال قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد حدثنا يحيى بن حكيم حدثنا عبد الملك بن الصباح المسمعي حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو عن العرباض بن سارية قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة فذكر نحوه. ) وواجب المسلمين في كل مصر وعصر هو الإقتداء بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فسيرته العطرة الشريفة هي تشريع للمسلمين واجب عليهم التقيد بها، وسيرته تحتم، لا بل تلزم المسلمين بالأخذ بقاعدة الأسباب والمسببات، فليس من الطريقة أن يركنوا للدعاء وحده ، بل يجب أن يقرن الدعاء بالعمل:
جاء في سنن الترمذي : حدثنا عمرو بن علي حدثنا يحيى بن سعيد القطان حدثنا المغيرة بن أبي قرة السدوسي قال سمعت أنس بن مالك يقول : قال رجل يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل قال اعقلها وتوكل ، قال عمرو بن علي قال يحيى وهذا عندي حديث منكر قال أبو عيسى وهذا حديث غريب من حديث أنس لا نعرفه إلا من هذا الوجه وقد روي عن عمرو بن أمية الضمري عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا .
وإنّ الإتكال على الله هو أمر من صلب العقيدة، كما أنّ الايمان بقدرته من صلب العقيدة أيضاً، والظن بالله ظن الخير من علامات الايمان، إلا أنّ الله لا ينظر لدعاء الخاملين المتواكلين، بل الله متم أمره ولا بد، وناصر جنده المؤمنون العاملون:
﴿﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾