السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
حياكم الله جميعا
وادي الموت، و الحياة!
كلما وقفت (هنا) تسربت عبر ذاكرتي المثقوبة حبات منها، فتختلط بمثيلاتها من رمل ( وادي جدي ) الذي يشق بلدتنا نصفين شمالي، و جنوبي.
هنا.. حيث ( الصّْفَيَّة ). برمودا وادي جدي.
حدث ذلك قبل أكثر من ثلاثين عاما.
كان يوما ثأر فيه الصيف لنفسه بشدة من سطوة الشتاء.
( الصفية ) آنذاك.. ملاذنا الوحيد من طوفان الحر.
صبي في الثامنة من عمره يشق صفحة الماء بجسده المدبب. و لأنه لا يحسن السباحة فقد اكتفى بالحافة فترة ما.
دفاعات الحيطة لديه تتهاوى أمام إغراء ليونة الماء، تنبسط أساريره من دغدغة دوائره المرحة.. يستجيب للنداء شيئا فشيئا.. تتشبث أصابع قدميه بأرض البركة اللزجة.. يبتعد القاع رويدا رويدا.. يَنْشُد الرجوع فيبتسم الماء..
يحلق الجسد الصغير مبتعدا عن القاع، عن الحافة، عن الأمل، عن الحياة.. و عن والدته التي ترقب مصيره عاضة على أصبعها.
على وقع طرطشة المياه يرقص الجسد المذبوح، تتضاءل روزنة النور، تخور القوى.. و تقهقه ( الصفية ) بهذا القربان الذي سَتُنْفِذ به يمينها.
فالصفية امرأة من الجانب الآخر تسكن هذا المكان في وادي جدي. أقسمت أن تأخذ نصيبها من سكانه كل عام.
و قد برت بقسمها مرات عديدة.
هذا العام.. سأكون القربان...
إلى الأحضان يا ولدي..
إلى الأحضانْ..
فَحِجْر الطين مَوْئِلُكا!
و ضرع الماء سقياكا!..
و ذاتك منهما التمثالْ!
أيا إنسان..
البرد.. الصمت.. و الظلام.. و ذكريات بطعم البرزخ.
هذا كل ما أذكره الآن، و كل ما رأيته وقتها . قبل أن ينتشلني أحدهم..
قبل ذلك بعام واحد، و لبضعة أيام، حين تعصر الشمس دماء مقلتها الحمراء على كفن النهار غشيتني سورة من غثيان، مع وخزات إبرية تنوش قلبي الصغير!
عرفت مع مرور الأيام أن السبب مغادرتها بيت جدها إلى منزل العائلة؛ بعد انتهاء العطلة.
حدث ذلك على الضفة الشمالية.
في أغوار مياه هذا الوادي عاشت أسماك الشبوط، و ثعابين المياه العذبة.. و على ضفافه الحالمة عاش أكثر من أربعين صنفا من الطيور.. و تسامت قامات النخل العملاق، و عزفت محركات السقي طقطقاتها المحبوبة في ليالي الصيف..
كان ( وادي جدي ) - زمنا- القلم الذي كتبت به أروع قصصي، و الريشة التي رسمت بها أجمل لوحاتي، و البحر الذي نظمت عليه أبدع قصائدي..
قبل أن يموت هو الآخر بعد سبع عجاف!..