بعد انتهائهم من دفنى عادوا ليجلسوا فى (صوان) العزاء
ودخلتُ معهم ( أنا فى العادةِ لا أذهبُ إليها ولكنَّ هذا مأتمى,
فهى حالةٌ استثنائية)
دخلتُ أدورُ بناظرىَّ بينَ الجُلوسِ أبحثُ عن مِقْعَدٍ شاغرٍ,
ها هو , وجدتُه.
ذهبتُ وجلستُ , ثمَّ سمعتُ هذا الحوارَ يدورُ بينَ الشخصينِ
اللذينِ عن يسارى:
" الله يرحمه, كان طيب ومحترم"
"الله يرحمه, أهى دنيا ومحدش واخد منها حاجة, المهم...
خلصت الأوضة بتاعة الواد ولا لسه؟"
"هتخلص كمان يومين إن شاء الله"
"هو أنا كل ما أسألك تقولى كمان يومين؟ هما اليومين بتوعك
دول هيخلصوا امتى؟
"يا عم زغلول هما يومين إن شاء الله. وبعدين انت مستعجل
على ايه. ما أنت أكيد هتأجل الفرح"
" أأجله ليه؟ الحى أبقى من الميت يا معلم
وبعدين الفرح لسه باقى عليه شهر بحاله"
أصابنى الذهولُ مما سمعت, فكيفَ يجلسانِ فى مأتمٍ
ويتحدَّثانِ عن غرفةِ نومٍ وموعدِ عُرس؟
استّدرتُ بوجهى لهما حتَّى أوبّخَهما,
وقبل أن أنطقَ بكلمةٍ واحدةٍ فوجئتُ بسحابةٍ من الدُخان
غَطَّتْ وَجهى, ودخلتْ فى عينىَّ فلم أعُدْ أرى شيئًا,
ودخلتْ فى أنفى فلم أعُدْ قادرًا على التنفُّس,
فهذا (المعلم) نفخَ دُخانَ سيجارتِه كلّها مرةًّ واحدةً فى وجهى,
فكأنَّه ألقمنى آتونًا مُلتهبًا فى فمى.
لمْ أَفِقْ من غيبوبتى المؤقتةِ هذه إلا على صوتِه وهو يهمسُ
للشخصِ الذى يجلِسُ عن يمينى قائلًا:
" خد يا أبو السيد, عايزك"
التفتُّ جهةَ اليمينِ لأرى من الذى يُخاطِبُه.
ما هذا؟
يبدو أن (أبا السيد) قادمٌ ليجلسَ على نفس المقعدِ الذى أجلِسُ عليه.
يجبُّ أن أهربَ بِسُرعة.
بالكادِ خَطفتُ نفسى من تحتِهِ مُهرولًا وجلستُ على المقعدِ
الذى كان يجلسُ عليه ( أبو السيد).
بدأتُ أستنشقُ الهواءَ بعدَ دُخانِ (المعلم) والفرارِ من(أبى السيد)
لمحتُ (الصفرجى) الذى يقدّمُ الشاى والقهوةً قريبًا منّى,
بالفعلِ,أنا أحتاجُ إلى كوبٍ من الشاى.
ولكن, يبدو أنّه يُقدّمُ القهوة, أنا لا أُحبُّ القهوة,
حسنًا, سأنتظِرُ منْ يُقدّمُ الشاى.
اقتربَ الصفرجى منّى وتحفَّزتُ لرفعِ يدى
كإشارةٍ له أن " شُكرًا"
ولكنّى تفاجئتُ بهِ يتجاهلنى ومرَّ مُباشرةً نحو(أبى السيد)
وكأنّنى غيرُ موجود.
أيكونونَ قد أخبروه أنّنى لا أُحبُّ القهوة؟
احتمال...فأنا صاحبُ المأتم , وهذهِ ليْلَتى.
جاءَ الصفرجى الذى يحملُ الشّاى , وهاهو قد اقتربَ منّى
ولكنَّ المُفاجأةَ أنّه مرَّ أيضًا ولم يُقدّم لى شيئًا.
كيف يتجاهلوننى هكذا؟
ألا يعلمونَ من أكون؟
حسنًا, سأخرجُ مِن هُنا
وعندما هممتُ بالقيامِ سمعتُ صوتَ القارئِ الذى كان طيلةَ
قرائتِه يلحَنُ بالقراءةِ, وكُلّما انتهى من قراءةِ آيةٍ , يرفعُ
الجُلوسُ أصواتَهم قائلين: "الله يا مولانا, الله يفتح عليك"
سمعتُه وهو يقول: صدق اللهُ العظيم.
فرأيتُ الجميع تأهّبوا للقيامِ والخروج, فأسْرَعتُ الخُطى
حتَّى أسْبِقَهم قبلَ الزِحام.
ووقفتُ بالخارجِ أنظرُ إليهم, فرَأَيتُهم يُقدِمونَ تِباعًا على صَفٍّ
طويلٍ, من بين الواقفينَ فيه أبي, أخي وأبناءُ أعمامي وعمَّاتي
وغيرُهم.
وقفتُ بضعَ دقائقَ بالخارجِ ثُمَّ لَمَحتُ أحَدَ أصْدِقائى مُتّجِّهـًا
نحوَ مَنْزِلِه, فذهبتُ وراءه لأجلسَ معه بعضَ الوقتِ كالعادة.
لم ألحقْ به إلا بعدما دخلَ المنزل, وسمعتُ أُمّه تقول:
" الله يرحمه, والله هيوحشنى"
فردَّ عليها صاحبى :
" الله يرحمه, هيوحشنا كلنا.
اعمليلى كوباية شاى يا أمى , أصلى مصدّع"
أردفتُه قائلًا:
" خليهم اتنين يا أم محمد"
ولكن يبدو أنَّها لم تسمعْنى.
لن يكونَ لكَ نصيبٌ فى هذا الشاىِ يا صاحبى.
جاءتْ أُم محمد تحملُ كوب الشاىِ, وقبل أن تجلِسَ
قال لها صديقى:
"افتحى التليفزيون وانتى واقفه بالمرّة "
قالت له:
" هتتفرج ع التليفزيون وصاحبك لسه ميّت؟؟"
فأجابها:
" يا ستى, هو يعنى قفل التلفزيون هيرجّع اللى راح؟
وبعدين عايز أطلع من النكد اللى احنا فيه طول النهار ده"
نظرتُ إليه والذهول قد تملّكنى, وقلتُ فى نفسى:
" وهل اكتفيتَ بنكدِ يومٍ واحدٍ فقط؟
معنى هذا أنّك من الغدِّ لن تكونَ مهمومًا؟"
قمتُ من عندِه وانصرفتُ متَّجِهًا نحوَ بيتِ صديقٍ آخر
كان بابُ المنزلِ مُغْلَقًا, ولكنّى لا أدرى كيف دخلت.
دخلتُ فى صالةِ المنزلِ ثُمَّ توقّفتُ,
يبدو أن صديقى داخلَ الغُرْفَةِ معَ زوجَتِه.
عُدتُ أدراجى مُتَّجِهًا نحو منزِلِنا
فوجدتُ كُلَّ من بالمنزلِ يبكونَ حُزنًا على فِراقى
تَرَكْتُهم وانصرفتُ إلى ذلكَ المكانِ الضيِّقِ الذى وضعونى
فيه ظُهرًا, ونويْتُ أن أعودَ لهم بعد شهر.
عُدتُ بعدَ شهرٍ, وعندما دخلتُ المنزِلَ سمعتُ صوتَ أُمّى
تُنادى على أخى وتقول:
" يلا يابنى, تعالى عشان نروح نقرّى على قبر أخوك"
لا زِلتِ تُصرَّينَ على ذلك يا أُمَّى؟
كم مرَّةً أخبرتُكِ أنَّ هذا الأمرَ لا ينفعُ بشئٍ
ولكن حسنًا, فهم ما زالوا يذكروننى.
سأذهبُ وأعودُ إليهم بعدَ انقضاءِ سنةٍ على موتى
عُدتُ إليهم بعد سنةٍ وعندما دخلتُ المنزلَ سمعتُ أيضًا صوت
أُمّى وهى تُنادى على إحدى أخواتى:
" خلاص يابنتى جهزتى القرص اللى هنوزعها على روح أخوكى؟"
الحمدُ لله, لازالوا يذكروننى.
سأذهبُ وأعودُ بعدَ سنةٍ أٌخرى.
ذهبتُ وعُدتُ بعدَ انقضاءِ سنةٍ, ولكن هذه المرّة توافقَ
دخولى المنزلِ مع دخولِ موظّفٍ تابعٍ للمجلِسِ المَحلّى
يقومُ برَصْدِ أعدادِ السُكّانِ داخلَ كُلِّ منزل.
سأل أبى:
" كام فرد ف البيت يا حاج؟ ..كل الأفراد بما فيهم الأطفال.
أخذ أبى يحسِبُ العددَ, ولكنَّ أخى سبقَه بالإجابة:
"سبعة يا أستاذ"
وأردفَ أبى:
" أيوة... سبعة"
فأخذتُ أحسِبُ عدد الموجودين بالمنزل
3,2,1....................8
العددُ ثمانيةٌ ليسَ سبعةً.
أعادَ الموّظفُ السؤالَ مؤكّدًا عليهم :
" اتأكدوا يا جماعة... عيدوا الحساب تانى"
فردّت أُمّى:
" أيوة يابنى مظبوط, احنا سبعة"
أخذتُ أُعيدُ حِسابى مرَّةً أُخرى:
7,6,5,4,3,2,1, وأ....
ااااه....هُم بالفعلِ سبعة
حِسابُهم صحيحٌ , وأنا مَنْ أخطأتُ الحِساب.
فذهبتُ بغيرِ رجعة.