أحــزان نادية
قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
..........................................
جلست «نادية» في ـ أول أيام إجازة نصف العام ـ في النادي، أمام المنضدة التي اعتادت أن تجلس مع محمود عليها!
النادي شبه مهجور .. وأوراق الأشجار متساقطة بكثرة فوق الحشائش التي كانت تبدو دائماً زاهيةً لامعة.
ما كانت تريد غير أن تسترجع لحظات من الزمن الجميل .. من خمسة عشر عاماً ضيعها محمود في نزوته، وسرق منها أحلامها، وعمرها الذي لن يعود.
أين محمود الآن؟!
إنني أذكره دائماً، وكأن حياتي تعلقت به رغم ما فعله معي!
رأت النادل من بعيد، عيناه كرصاصة نارية تخترق تجاويف صدرها .. كأنه يسألها لماذا أنت وحيدة .. ولماذا لا أرى الدكتور محموداً معك تملآن المكان حياةً وضحكاً؟!!
كم كانت تضيق صدراً من مطاردات النادل لهما في خلوتهما بالنادي .. وسؤاله المتكرر:
ـ ماذا تشربان؟
.. لماذا يبتسم الآن؟
هل يريد أن يقول إن محموداً يأتي هنا كثيراً مع لعبته الصغيرة ناهد؟!
ـ أريد شاياً بالحليب.
إنني لم أجيء هنا من أول الصيف الماضي.
تجنبتُ الأماكن التي كنا نغشاها معاً.
هل رأى «محموداً» مع «ناهد» تلميذته الساقطة التي تزوجها بعد أن صارت حكايتهما في النادي والجامعة على كل لسان .. وتزوج ابن الخامسة والخمسين من لعوب في الرابعة والعشرين؟!!
استدار النادل ليُصافح فتاة تُشبه ناهد .. تميل إلى القصر .. والنحافة .. ما الذي أعجبه فيها؟!!
لاحظت «نادية» ظهر شخص أمام باب النادي في الزاوية البعيدة .. ظهر كظهر محمود .. لبست النظارة الطبية، فلم تر إلا ظهره!
كنا زميلين في قسم علم النفس بكلية المعلمين (قبل أن يتحول اسمها إلى كلية التربية)، وكنتُ الأولى دائماً، وكان ينافسني على التفوق، لكنه كان يأتي بعدي دائماً.
حينما تزوجنا، ونحن معيدان صغيران بالكلية، كان الجميع يحسدوننا على الحب والتفاهم اللذين يظلاننا .. أين ذهب ذلك الحب؟ وأين اختفى ذلك التفاهم؟
استدارت الفتاة التي كانت مع النادل لتلحق به، وتتعلّق في ذراعه .. وتتمايل في مشيتها كتمايل عارضات الأزياء!
ما الذي يجعل الأستاذ الجامعي يقع في حب تلك «المهرجة المسخوطة»؟!
رنَّ في أذنيها صوتُ والدتها الواهن:
ـ أنتِ يا أستاذة علم النفس .. فشلتِ في معرفة نفسية زوجتك .. وفشلتِ في التعامل معه بعد الخمسين؟
قالت في نبرات غاضبة:
ـ لا تحمليني وزر ما حدث.
ـ لماذا تغضبين إذا قلنا الحقيقة؟ .. أنتِ لم تُحافظي على طائرك.
أجابت صارخة:
ـ حاولتُ .. فلم أوفّق!
كان جو يناير شديد البرودة، وكان هناك رذاذ خفيف!
قالت خالتي سامية ذات يوم:
ـ كان المفروض أن يكون زوجك أكبر منك في السن بخمسة أعوام .. لا زميلك!
.. أبعد الخمسين تقولين ذلك يا خالتي؟! .. إنها تكرر أقوال أمي! .. وإنني لم أشعر بحكاية السن هذه أبداً!
تركت «نادية» نقود المشروب على المنضدة، وأسرعت تُعلق حقيبتها في كتفها.
كادت تقع على الأرض في أولى خطواتها المتسارعة للحاق بمحمود.
لاحظت أنها ـ منذ أسبوعين ـ تعرج عرجاً خفيفاً، لا تدرى سببه!، ربما أصابها «النقرس» اللعين، ستذهب إلى طبيبها هذا المساء لتستشيره.
نظرة حزينة تبدو في عيْنيْها وهي تُغادر النادي .. لقد جاءت لتستعيد شيئا من الماضي .. فطاردها ..
تدحرجت خطواتها على الطريق .. تريد أن تراه .. هل هو محمود؟!!
وقف الرجل والمرأة أمام بائع جرائد.
هل هما محمود وناهد؟
لاحظت بل تأكّدت أنه هو .. تأكدت من ظهره!
أصبح الشيب يغزو شعره.
ابتسمت ابتسامة خفيفة.
كنتُ أصبغ شعره كل أسبوع، بل إني صبغتُ شعره يوم زفافه على ناهد.
ـ أنت تحبينني بلا شك يا نادية!
ـ اسأل قلبك.
ـ لماذا إذن تُطارديِني في الجامعة والنادي وبيوت الأصدقاء؟
ـ أريد أن أُحافظ على صورتك كأستاذ جامعي!
ـ أنتِ أيضاً أستاذة جامعية؟
ـ هل تلومني على شدة حبي لك، ومحاولتي أن أحافظ على صورتك من عبث هذه العابثة؟
ـ أنتِ يا هانم .. كسرتِ الصورة! وزعمتِ أني أحب تلك التلميذة الصغيرة.
ـ ليست صغيرة، بل في الرابعة والعشرين.
في استنكار:
ـ وعرفتِ عمرها؟
مالت عليه لتقبله، وتخفف من حدة الحوار:
ـ أحبك كأنك طفلي!
وكأنه يريد أن ينهي الكلام، وهو يبتعد عن فمها:
ـ نحن مساء الخميس .. ألم تنسي شيئاً؟!!
ـ نسيت ..
وكأنها تتذكر:
ـ هذا يوم الزيارة الأسبوعي .. نزور والدتك ثم نذهب لزيارة والدتي!
قال وهو يعاود مرحه القديم:
ـ لا والدتي .. ولا والدتك اليوم!
وهي مهمومة، وتُجاهد أن تبتسم؟:
ـ هل سنقضي اليوم في البيت؟
ـ لا ..
ـ ماذا إذن؟
قال والدهشة تملأ عينيها:
ـ هذا يوم صبغ الشعر الأسبوعي! .. بعدها سأذهب لزيارة صديق عائد من مؤتمر علمي في فرنسا .. وسأجد عنده بعض الأصدقاء، ونسهر معاً.
...
وصبغت شعره، وذهبت لأمها وعادت لتجد معه ناهد، في شقتها هي التي أثثتها من رحلتها إلى الكويت .. وحينما ثارت عليه وصفعته على وجهه أخبرها أنها زوجته من شهور!
ضربت نادية الأرض برجليها، وملأت الدنيا صراخاً. ركبت سيارتها وذهبت إلى أمها التي كانت معها منذ ساعة. هجرت عش الزوجية، وعولجت شهوراً طوالاً من الصدمة في مصحة نفسية، بعد أن طلقها، وأقام في الشقة التي ملأتها بالأثاث من إعارتها أستاذة لعلم النفس في جامعة الكويت، وحرمها من مكتبتها التي كونتها كتابا كتاباً ومجلدا مجلداً.
كادت تشده من البذلة التي أتت له بها من إعارتها ـ وما زال يرتديها!! ـ وتقول له:
ـ اخلع بذلتي يا عرة الرجال!!
ولكنها وجدت ساقيها تتعثران، وتسقط على الأرض على بُعد خطوات قليلة من بائع الجرائد، وينظر محمود للجسد الذي ارتطم بالأرض في تجاهل تام، وكأنه لا يعرف مطلقته .. هذه المرأة ـ التي عاش معها خمسة عشر عاماً ـ من قبل!!
الرياض 15/1/2002م