= حكاية حبَّة القمح =
قصة : جمال علوش
( 1 )
أذكر عندما فتحتُ عينيَّ ذات صباح ، أنني أبصرتُ نهراً أصفرَ من السنابل ينساب باتجاه الشرق . كان المنظر ساحراً جدَّاً ، لذلك رفعتُ رأسي لأرى أكثر ، إلاَّ الريح هبَّت بقوة في تلك اللحظة ، فحملتني على ظهرها وطارت بعيداً .
شعرت بفرح غامر يتملكني وانا على ظهر الريح . قلتُ في سِرِّي : سأزور البلدان ، وأتعرف على كثير من الأصدقاء . ونمتُ على كتف الريح .
( 2 )
رمتني الريح في وسط سهل واسع ، فابتسمت . قلت : سأظلُّ هنا أتمتع بدفء الشمس ، وأسامر النجوم في الليل ، وعندما أشتاق للرحيل ، ستحملني صديقتي الريح إلى حيث أشاء .
قالت لي شجرة كانت تتوسط السهل :
- ليس هذا مكانكِ أيتها الحبة !
وقال لي غدير صغير :
- اغرسي نفسك في التربة .. وستتحولين بعد شهور إلى سنبلة تحبها الطيور والعصافير .
وقالت لي الأرض :
- انغرسي فيَّ ، تجدي الدِّفء والغذاء والأمان .
وطبعاً لم أستجب لطلب أحد . فقد قرَّرتُ أن أظلَّ كما أنا ..حبة حنطة ذهبية..أزور البلدان ، وأتعرف على الناس، وأكتسب خلال تجوالي الكثير من الأصدقاء .. وربما يحالفني الحظُّ فيما بعد .. فأجمع مشاهداتي كلها في كتاب يحمل اسمي.. فأصبح أديبة مشهورة . ونمتُ بانتظار عودة صديقتي الريح .
( 3 )
ومرَّت الأيام والشهور .. وجاء الشتاء . فتحتُ عيني ذات يوم ، فشعرت بالبرد يسري في جسدي .
قالت الشجرة :
- ياللحبَّة المسكينة !
وقال الغدير :
- ستندم بعد أيام .
وقالت الأرض :
- لم يفت الأوان بعد .. هيَّا انغرسي في جسدي ...لكنني، وبدافع من كبرياء عنيدة متأصِّلة فيَّ ، تحاملت ، وتصنعت االلامبالاة .. إلاَّ أن الخوف بدأ يساورني .. فلربما تأخرت الريح ، ورحت أعدُّ الدقائق في انتظارها . وفي غمرة الحزن والألم والخوف ، جاءت الريح . حملتني على ظهرها ، وطارت بي . قلت في نفسي : ستحملني ولاشك إلى مكان أكثر أمناً ودفئاً .. ونمت .
( 4 )
فتحتُ عيني ، فإذا بي على ظهر تلَّة . نظرت حولي ، فرأيت بضع شجيرات بريَّة . كان المكان موحشاً ..لاناس فيه ولا أصدقاء . قلتُ في سرِّي : لقد خذلتني الريح . وبدون أن أشعر ، وجدتني أحفر في التربة وأتغلغل حتى وصلت إلى عمق شعرت معه بالدفء والأمن والحنان .
( 5 )
ومرت الأيام ..وأفقت ذات صباح على حركة تنبعث من داخلي : كان جسدي ينشق عن برعم أخضر طريّ نظرت من خلاله إلى الشمس فوجدتها تبتسم ..فابتسمت لها ...ورحتُ أتابع مع الأيام نمو ساقي التي توجت نهايتها بسنبلة تحمل الكثير من الحبوب الخضر . وعندما حلَّ الصيف بدفئه الساحر ، واكتسبت حبوبي لونها الذهبي ، حدثتها عن حكايتي ، وأسهبت في وصف وطني هناك .. حيث السهول تنداح معجبة بلألائها .. فشعرت بالشوق يتدفق من عيونهنَّ .. وبإصرارهنَّ على انتظار اليوم الذي تجيىء فيه الريح وتحملهنَّ إلى حيث يضحك الوطن .
----------------------------------------