بينما أنا أسير في بيداء قاحلة، لمحت هناك قافلة تسير في تناغم؛ كأنّها تطير على موجات الأثير، مثل الطّيور المهاجرة..
لكنْ! إلى أين هي سائرة ؟ في هذه الفيافي المقفرة !
اِقتربت منها لأرى عن كثبْ، فإذا حاديها طيفٌ يغنّي لها لتسير وتحثّ المسير. أحسست أنها مفعمة بالأمل، يعتصرها الألم، ويسوقها الشّوق. وتساءلت إلى أين هي راحلة وما هي وجهتها المقبلة؟
تبعت الحادي وهو يُنشد:
اِقتربت من الطّيف، فقال: مرحبًا بالضّيف. نظرت إليه فإذا جماله مُبهِر، يعبق بالطّيب، كأنّه مِسكٌ أَذْفَرٌ، على رأسه تاجٌ من وردٍ أحمر، وفي يده صولجانُ ذهبٍ أصفر..
قلت: مرحبا أيّها الحادي، معذرةً يا طيّب الإنشادِ، إلى أين المسير في هذا الوادي؟
فترنّم بحدائه العذب:
من واحة لواحة نسير (تكرار المقطع الإنشادي)
ثم اِلتفت إليَّ الطّيف وقال: أما عرفتني أيها الضّيف ؟
أجبتُ: إنَّ خَافِقِي قدْ سَاقنِي إلى هُنَا، أخالُ أني قدْ أُجنّ، قلبِي بِكَ قَدِ افْتُتِنَ، مالِي أرى بأنّهُ لكَ يحنّ؟ لك أَسِيرٌ مرتهنٌ !معذرة أَنْ أَجْهَلَك، بِرَبِّكَ أين أنَا؟ فقالَ لِي: الخيرُ لكْ، قد قدِمتَ إلى الهنَا..
قلتُ لهُ: أنتَ مَلِكْ؟ أو رُبّمَا أنتَ مَلَكْ ! اِشفِي غليلِي الفضلُ لكْ
أنشد في ثباتٍ:
إليك بعضًا من صِفَاتِي..
مِنْ بَعدِهَا مُسَمَّيَاتِي..
لِيَ القلوبُ تستكينْ..
يَهُدُّهَا الحنينْ..
أُسَبِّبُ الجُنونَ والحَزَنْ..
وَلَوْعَةَ الألمْ..
واللاَّعِجَ الشَّديدَ و الكَمَدْ !
ولهفةَ اللقاءْ..
والشوقَ والسَّهَدْ..
وغيرهَا..
كثيرةٌ صِفاتِي..
فلا تُعَدّ..
...
وهذه مسمّياتي:
عُرِفتُ بالهوى..
و الوَجدِ و الشَّغَفْ..
كذلك الهُيَامْ..
سٌمّيتُ بالجَوَى..
والعِشْقِ و الدَّنَفْ..
كذلكَ الغَرَامُ والخَبَلْ..
وصَبْوَةٌ صَبَابَةٌ كَلِفْ..
كذَا تَتَيُّمٌ وَلَعْ..
ومُقَّةٌ لِمَنْ عَرَفْ..
والشَّجْوَ والشَّجَنْ..
والوُدَّ والوَلَهْ..
والشَّوقَ و الوَهَلْ..
وغيرهَا كثيرةٌ لِمنْ عَقلْ..
...
أنا الّذي عُرفتُ باسمٍ أعظمَ..
وقدْ حوَى لِكُلِّ ما تقدمَ..
أنا الّذي لا أطرقُ الأبوابَ..
لستُ مُرْغَما..
وأدخُلُ القلوبَ دونَ أنْ أُسَلّمَ..
الكلُّ دانَ لي وسَلّمَ..
أحرارُ أو عبيدُ أو إِمَـا..
فكلّهمْ بلمستِي تَرَنَّمَ..
سكرانَ منْ سُقْيَايْ..
كأنّمَا يطفُو مع السّحابِ.. (م)
أو يُدانِي (الاَنْجُمَا )..
فَكِّرْ على مَهَلْ..
أما عرفتَ منْ أكونُ يا بطلْ؟
...
أجبته :
الحبُّ أنت سيدي خذ بيدي. واِغرورقت مدامعي.
فقال لي: لا داعي للجزعِ، فأنت في بلادي؛ في هذه البوادي. أنا للأرواح حادي، للحبِّ و اللّقَاءِ والوصلِ و الوِدَاد.
...
وأنشد وهو يسير، وخلفه القلوب تجد في المسير:
من واحة لواحة نسير.. (تكرار المقطع الإنشادي)
...
وبعدَ مدةٍ منَ السَّفَرْ أعلنَ الحادِي الخَبرْ:
قدً بَلغنَا واحةً فَاسْتبشِرُوا، بِهَا قلوبٌ تنتظر قُدومَكم وتَصْطَبِرْ، فانطلقُوا إلى تلكَ الجِنَانِ موَفَّقِينَ. اِمضُوا في أمانٍ.
فَحَلَّقَتْ كُلُّ القلوبِ في المكانِ..
فكانَ منهَا مَنْ تعارفتْ.. (م)
قلوبٌ وُفِّقَتْ..
تآلفتْ تَعانقتْ..
فألقتِ الزهورُ عِطرهَا..
وزغردتْ لهَا الطُّيُورُ في سعادةٍ وفي حُبُورْ..
وللأسفْ !
فبعضهَا لمْ تلقَ حظّها هُناكْ..
فغادرتْ كَسِيرَةَ الجَناحْ..
وفاضَ حُزنهَا..
كَأنَّمَا هَلاكُهَا مُؤَكَّدٌ وَشيكْ..
فأنشدَ الحادِي المَليكْ:
أيَا قُلوبُ أقبلِي..
لا تعجلِي..
فذي مَحَطَّةٌ على الطّريقْ..
واِسترسل منشدا:
من واحة لواحة نسير (تكرار المقطع الإنشادي)
...
سارت مع مليكها القلوبُ من حَرِّ حزنها تكاد أن تذوبَ. سألته عن المصير: إلى متى نتابع المسير؟
أجابني:
من واحة لواحة نسير، لوجهةٍ جديدةٍ وواحة بعيدة. من كان حظّه في هذه الدنيا سعيدًا؛ سيلتقي بِحُبِّهِ، وعنه لا يحيد، لكن بعضكم يفوته اللِّقَاءُ مع الحبيبِ، وعند ربكم يكون الملتقى، فهل وعيتَ أيها الغريب.
هذي الفيافي عمركم، والحبّ واحةٌ في قفركم.
ومضى المليكُ منشدا يردد النشيد...
../