قامت إلى المطبخ لتحضير قهوة الصّباح , وقام يتوضّأ للذّهاب إلى صلاة الفجر , هذا دأبهما منذ عقود من الزّمن . يعبق البيت الدّافيء برائحة القهوة فجرا , وهي تُدندن منتشية بأغاني أفراح قديمة , أغلبها مدائح نبويّة , وهو يذكر الله عزّ وجل بصوت مرتفع ببسملة أو تسبيح في كل حركة أو خطوة يخطوها , ويُصلّي على الحبيب . يعود من المسجد , يتبادلان أطراف الحديث مع فنجان القهوة , ثمّ يجلس للذكر حتى وقت الضّحى , يأتيه جاره ورفيقه القديم , يتمشّيان إلى السّوق , ويعود باكرا ليستعدّ للصّلاة , فاليوم جمعة . وتبقى هي تحيك بعض الألبسة الصّوفيّة , تُقدّمها كهدايا عادة , لأي امرأة تعرفها , وتسمع أنّها أنجبت مولودا , ثم تنهض لتحضير الغذاء .
أفاقت البنت الكُبرى مذعورة وقالت بأنّها رأت في المنام أنّ بيت أبويها يحشده الجنود بألبستهم الخضراء , وكأنّهم في استعداد لخروج شخص مهم من البيت , طمأنها زوجها بأنّ رؤية الجنود فيها الخير , وهم في المنام الملائكة وجند الله .
أفاقت البنت الوُسطى تتنّهد وتقول : باسم الله الرّحمان الرّحيم , خيرا .. اللهم اجعله خيرا , رأيت أنّ القمر مكتمل الدّوران على سطح بيت أهلنا القديم ,وقد ارتسم على سطحه مرّة وجه أمّي , ومرّة وجه أبي , وكانا مشرقين ومبتسمين , ناولها زوجها كأس ماء وقال لها : رؤية جميلة , وفجرا , بشارة خير ان شاء الله .
وأفاقت البنت الصّغرى تبكي وتقول لزوجها : يجب أن أذهب حالا لزيارة أبي وأمي , رأيتهما الآن في المنام على سفر , وقالت لي أمي : أحبّك كثيرا , لا تبتعدي عن أخواتك واعتني بأخيك الصّغير , أبلغيهم حبي وسلامي , وابتسم أبي وكأنّه يقول نفس الكلام , قال لها زوجها بأنّها لم تبتعد أبدا عن أهلها , وذكّرها بلقائهم الدّوري كل أسبوعين أو ثلاثة في بيت العائلة الكبير , وقام يتأهّب كي يأخذها لزيارة أمّها وأبيها .
وقام أخ البنات الوحيد الأصغر وقد وجد دموعا منسكبة على خدّه , وقلبه يخفق بشدّة وجبينه يتصبّب عرقا , وقال لزوجته : كنت مع أمي في المنام , قبّلتني بين عيني , وقبّلتها في رأسها , وقبّلت رأس أبي , وقالت لي : يا بني , أنت الصّغير لكنّك السّند والعماد , وأنا وأبوك قد حمّلناك مسؤولية البيت والعائلة , اعتني بأخواتك الثلاثة , صحيح أنّكم كبارا الآن , وأولادكم كبارا , ولكم أحفادا , لكنّكم وحيدين , وليس لكم الأ بعضكم البعض , والأخ والأخت لا تُعوّض يا بُني , وبرّكم لبعضكم هو برّ لنا , فبحياتكم تمتد حياتنا , كان يحكي رؤياه بكل تفاصيلها وزوجته تبكي وتقول : يا ربّي احفظهما , وبارك فيهما , وربّي يبارك فيكم ان شاء الله .
مع دندنات المديح ورائحة القهوة توقّف قلبها عن الخفقان , ومع صوت مؤذّن الفجر وحركات الأطراف في الوضوء , وقطرات الماء اللؤلؤية الصّافية , توقّف قلبه عن الخفقان , لم تكن هذه الجمعة موعدا للقاء العائلة , لكن بعض اللقاءات المُهمّة تأتي بلا مواعيد , كان البيت العتيق الّذي ضمّ شخصين لأعوام طوال مكتظّا بجموع النّاس , وكانت صلاة الفجر , وكانت صلاة الجمعة , وكانت صلاة الجنازة