كلمة شرف
بقلم ل. بانتيليف
ترجمها من الروسية
أ*. د. حامد طاهر
يؤسفني جدًا أنني لا أستطيع أن أذكر لكم اسم هذا الصبي الصغير , وأين يعيش , ومن هي أمه , ومن هو أبوه , لأنني في الظلام لم أتمكن من رؤية وجهه . فقط أذكر ان أنفه كان به بعض النمش , وأن بنطلونه كان قصيرًا , لم يثبت بحزام , وإنما بحمالة تنقلب من فوق الكتف , وتزرر في مكان ما على البطن .
على نحو ما , توجهت في الصيف إلى حديقة - لا أعرف كيف يسمونها - على جزيرة " فاسيليفسكي " بالقرب من كنسية بيضاء . وكان معي كتاب ممتع , رحت أقرأ فيه , ولم ألاحظ كيف حل المساء .وعندما ضعفت عيناي من الزغللة , أصبحت القراءة من الصعوبة بمكان فأغلقت الكتاب , ونهضت متجهًا للخروج . .
كانت الحديقة قد بدات تخلو من الناس , وفي ممراتها , راحت المصابيح تشع من آن لآخر . ومن خلف الاشجار رن جرس الحارس . ولأنني خشيت أن تغلق الحديقة , مشيت مسرعًا جدًا . وفجأة توقفت . فقد وصل إلى سمعي من خلف بعض الشجيرات أن أحدًا يبكي . .
انعطفت إلى جانب الطريق , حيث لاح على البعد بيت صغير بلونه الأبيض وسط الظلام : بيت حراسة أو كُشك كذلك الذي يوجد في كل حدائق المدن . وكان بقربه حائط , وقف بجانبه فتى صغير ,لا يزيد عمره عن سبع أو ثماني سنوات, وهو مطاطأ الرأس , وينتحب بشدة , دون سلوى من أحد!
اتجهت إليه وناديته:
- أيها الصغير . . ماذا بك ؟
- لا شيء .
- كيف لا شيء . . من ضربك ؟
- لا أحد .
- ما الذي إذن يبكيك ؟
كان من الصعب أن يتكلم , وكذلك أن يمسك بكل دموعه . وكان ينشج ويفوق ( من الفواق: الزغطة ), وينشق بأنفه !قلت له:
- هيا نمضي . . أنظر ، فقد صار الوقت متأخرًا ، والحديقة تغلق . .
وأردت أن أجذبه من يده , لكن الصبي سحب يده بدون حرج قائلًا:
- لا أستطيع
- ما الذي لا تستطيعه ؟
- لا أستطيع السير
- كيف ؟ لماذا ؟ ماذا بك ؟
- لا شيء
- هل أنت مريض ؟
ــ لا . . صحيح بصحة جيدة .
- إذن لماذا لا تستطيع السير ؟
- أنا حارس
- أي حارس ! أي حارس !
- ماذا أنت ؟ ألا تفهم ! نحن نلعب . .
- آه . . مع من تلعب . .
سكت الصبي , وبلع ريقه , وقال:
- لا أعرف .
وهنا بدا لي أن الصبي ربما يكون مريضًا , وأن في رأسه خبالًا . قلت له:
- اصغ إلي . . ماذا تلعب ؟ وكيف كان ذلك ؟ تلعب . . ولا تعرف من أنت ؟
- نعم , لا أعرف . فقد كنت أجلس على دكة في الحديقة وأقبل مجموعة كبيرة من الأولاد , وقالوا لى : " هل تريد أن تلعب معنا لعبة الحرب ؟ " فقلت: " أريد " . ورحنا نلعب . قالوا لي : " أنت عرَيف "وكان هناك ولد كبير أرسلني إلى هنا , وقال: إن لدينا مستودع بارود في هذا الكشك وستكون أنت حارسه . فابق هنا , ولا تنصرف حتى لا أبدلك بشخص آخر قلت له: "حسنًا " . قال:
" أعطني كلمة شرف على أنك لن تذهب " .
- هيه . .
- قلت له: " كلمة شرف: لن أذهب "
- وماذا بعد ؟
- ها أنا ما زلت واقفًا . . واقفًا , وهم لا يأتون !
حينئذ ابتسمت وسالته :
- حسنًا . . وهم وضعوك هنا منذ وقت طويل ؟
- كان النهار لا يزال . .
- ولكن أين هم ؟
- أعتقد أنهم مضوا . .
- كيف مضوا ؟
- نسوا . .
- ولماذا تجلس إذن ؟
- لقد أعطيت كلمة شرف . .
أردت أن أبتسم مرة اخرى , لكنني تنبهت فجأة إلى ان الضحك في هذا الموقف لا يليق , وأن الصبي على حق تمامًا . فما دام قد أعطى كلمة شرف , عليه أن يبقى مهما حدث ولو على حياته ! ويستوي بعد ذلك أن يكون الأمر لعبة , أو غير لعبة .
قلت له:
- إذا كان هذا قد حدث ، فماذا تصنع الآن ؟
قال الصبي , وقد بدأ يبكي:
- لا أدري
أردت أن أقدم له أية مساعدة ممكنة , لكن . . ماذا أستطيع أن أفعل ؟ هل أذهب للبحث عن أولئك الأطفال السخفاء , الذين وضعوه في الحراسة آخذين منه كلمة شرف , وأسرعوا هم إلى منازلهم ؟ لكن أين أجد هؤلاء العفاريت ؟ ! لا شك في أنهم قد تناولوا عشاءهم , وذهبوا إلى الفراش ،
ورأوا عشرات الأحلام . أما الصبي , فيجلس هنا الساعات الطويلة , في الظلام , وهو جائع حقًا ! وسألته :
- هل تريد أن تأكل ؟
- نعم . . أريد .
قلت بعد تفكير:
- حسنًا , أسرع أنت للمنزل لكي تتعشى , وسأبقى أنا بدلًا منك هنا .
وقال الصبي:
- نعم . . لكن هل هذا ممكن ؟
- ولماذا لا يمكن ؟
- إنك لست شخصًا عسكريًا
هرشت قفاي , وقلت:
- صح . . لن تذهب . . حتى أنا لا أستطيع أن أكون مناوبا مكانك . الذي يمكنه أن يقوم بهذا العمل شخص عسكري . . قائد !
وفجأة قفزت إلى ذهني فكرة طيبة , واعتقدت أنني إذا حررت الصبي من كلمة الشرف , فإنني أحرره من الحراسة أيضًا , هكذا ينبغي أن يكون العمل . لكن من الضروري الذهاب للبحث عن شخص عسكري.لم أقل شيئًا للصبي . أبلغته فقط "انتظر لحظة " وأسرعت بنفسي إلى مكان الخروج .
لم تكن بوابة الحديقة قد أغلقت بعد , أما الحارس فقد ذهب إلى أقصى الحديقة , لكي يتصل من هناك بمركز حراسته. وقفت بالقرب من البوابة , ولم يمر بالقرب مني أي شخص عسكري: أي ملازم , أو حتى جندي من الجيش . وكما يبدو لم يكن في الشارع أي شخص يرتدي الملابس العسكرية . وفجأة ظهرت في الجانب الآخر من الشارع مجموعة من المعاطف السوداء .فرحت , وظننت أصحابها بحارة عسكريين , لكنني عندما عبرت الشارع مسرعًا لم أجدهم بحارة , وإنما طلاب صغار في مدرسة صناعية . ومر رجل سكة حديد طويل القامة يرتدي معطفًا جميلًا جدًا , مزينًا بعلامة خضراء . لكن هل كان من الممكن لمثل هذا الرجل أن يقف ويستمع لي أردت أن أعود للحديقة , وجهي مثل قفاي . لكني فجاة , لمحت عند الناصية على محطة الترام " كاب " أحد القادة بإطار أحمر . ويبدو أنني لم أفرح قط في حياتي مثل فرحي في تلك اللحظة . واندفعت نحوه بكل قوتي . لكنني مع الأسف لم الحق به , لأنه كان أسرع مني في الصعود إلى " الترام ". وقفت على المحطة, إلى أن أقبل ضابط شاب , برتبة رائد , وكان يشق طريقه وسط الجمهور المتجمع حول باب العربة . وأسرعت إليه , ممسكًا بذراعه , وصحت:
- رفيقي الرائد . . دقيقة واحدة . . انتظر . . رفيقي الرائد !
التفت إلي ناظرًا باستغراب , وقال:
- ماذا حدث ؟
- هل تريد ان تعرف ماذا حدث ؟ هنا , في حديقة , بالقرب من " كشك " حجري , يجلس طفل صغير منذ ساعات . . إنه لا يستطيع الخروج . فقد أعطى كلمة شرف . . إنه صغير جدًا . . إنه يبكي . .
قطب القائد عينيه , ورنا إليَ بدهشة أكبر . ربما ظن هو أيضًا أنني مريض , وأن في رأسي خبالًا . . لكنه قال:
- إنني هنا في عمل ؟
لكن " الترام " كان قد فاته , فنظر إليً بغيظ , وانتهزت الفرصة فشرحت له القصة بوضوح أكثر , وعندما فهمها لم يعد يفكر , وعلى الفور قال :
- فلنذهب . . لنذهب بالطبع . . لماذا لم تقل هذا لي مباشرة ؟ !
وعندما توجهنا إلى الحديقة , كان الحارس قد أغلق البوابة تمامًا . وطلبت منه الانتظار عدة دقائق , وقلت له : إن في الحديقة صبيًا باقيًا , واندفعنا - الرائد وأنا - إلى داخل الحديقة .
وفي الظلام , اكتشفنا بصعوبة البيت الصغير الأبيض , كان الصبي واقفًا في مكانه بالضبط , حيث تركته . ومرة أخرى كان يبكي بهدوء شديد . ناديته , ففرح جدًا , إلى حد أنه صرخ من الفرح . أما أنا فقلت:
- ها هو ذا . . قد أحضرت قائدًا .
اعتدل الصبي في وقفته , ولكي يرى القائد بصورة أفضل , مد جسمه الصغير لأعلى عدة سنتيمترات . . وقال القائد:
- أيها الرفيق الحارس . . أي رتبة تحملها ؟
- أنا عريف .
- رفيقي العريف . . آمرك بترك مركز حراستك , الذي عهد به إليك .
سكت الصبي , وحك أنفه , ثم قال:
- وما هي رتبتك انت . فأنا لا أرى تمامًا عدد النجوم التي على كتفك ؟
- أنا رائد .
عندئذ رفع الصبي يده مؤديًا التحية العسكرية , قائلًا:
- حاضر - رفيقي الرائد - بالأمر أترك نقطة الحراسة .
قال هذا بصوت مسموع , وبمهارة بالغة إلى حد أننا لم نتمالك أنفسنا وانفجرنا في الضحك . وابتسم الصبي بسرور وارتياح .
عدنا إلى باب الحديقة المغلق , وانتظرنا عدة لحظات , قبل أن يفتح الحارس لنا القفل المغلق .
ومد الرائد يده محييًا:
- ممتاز يا رفيقي العريف . منك يخرج المحارب الحقيقي . . إلى اللقاء !
وتمتم الصبي ببعض كلمات , قائلًا:
" إلى اللقاء "
وتركنا الرائد , مسرعًا إلى المحطة , نحو " ترامه " الذي كان قادمًا . أما أنا , فقد شددت على يد الصغير , وسألته:
- هل يمكنني أن أوصلك ؟
- لا . . فإنا أسكن قريبًا من هنا . . إنني لا أخاف .
ونظرت إلى أنفه الصغير ذي النمش , واعتقدت حقًا أنه لا يخاف من شيء . ان الصبي الذي لديه مثل تلك الإرادة القوية , وهذه الكلمة المتينة لا يخشى الظلام , ولا يخاف من المجرمين , ولا يرتجف من أكثر الاشياء رعبًا !
وعندما يكبر , لا ادرى ماذا سيكون عندما يكبر ؟ على أي وضع كان , فإن المضمون بالفعل أنه سيكون شخصًا حقيقيًا .
هكذا فكرت وأنا أسير وحدي مسرورًا من تعرفى على هذا الصبي الذي أشد على يديه بقوة . . مرة أخرى !