نازك الملائكة وبحر الموفور ودائرته (دائرة الملائكة)
في عام 1977 أصدرت شاعرة العراق الكبيرة الراحلة نازك الملائكة ديوانها (يغير ألوانه البحر) والذي تضمن قصائدها التي كتبتها عام 1974 , وفي مقدمته تطرقت الشاعرة الكبيرة وإحدى رائدات الشعر الحر إلى بحر جديد أضافته للشعر الحر ووزنه (مستفعلاتن مستفعلاتن) وأسمته فيما بعد (بحر الموفور), وشرحت الشاعرة ما دعاها لهذا الوزن وما رافق بداياتها فيه وما قابلتها من إشكاليات في أول قصيدتين كتبتهما وتجاوزت ذلك في قصيدتها ( نجمة الدم) والتي كتبتها نهاية عام 1975 عن بيروت وما حصل فيها.
وبالطبع كأي طرح جديد من شاعرة كبيرة ورائدة في الشعر العربي والشعر الحر خصوصا كان لابد لكثير من المجتهدين والنقاد أن يتطرقوا لما طرحته , لكن مع الأسف لم أجد من فهم لما طرحته وبينته في مقدمة ديوانها فبعضهم خلط بينه وبين مخلع البسيط (مستفعلن فاعلن فعولن) وآخرون خلطوا بينه وبين اللاحق (مستفعلن فاعلن فاعلن) والغريب في كثير من هذه المقالات لم تتوخ الدقة في طرح الوزن وفهم الأسباب التي دعت نازك لطرحه وتبنيه.
وبعض الباحثين كتبوا بعض ما قالته ونسبوه أنه في الصفحة كذا أو كذا وحصرا 84 و85 من كتابها (قضايا الشعر المعاصر) وهذا الكتاب صدر بطبعته الأولى عام 1962 وبطبعته الثانية عام 1965 ولم تتطرق الشاعرة فيه لهذا الوزن لأنها كما قالت في مقدمة ديوانها بدأت النظم عليه عام 1974, والقصيدتان اللتان نظمتهما كان فيهما خروج عما تبنته لكنها تلافت ذلك في قصيدتها (نجمة الدم) عام 1975 ,وهي من أوضحت ذلك في مقدمة ديوانها.
ولا أريد التطرق لما طرحه هؤلاء المجتهدون والذين لم يناقشوا الموضوع بإيجابية حتى أنني ظننت وفي موضوع آخر في نهاية عام 2015 أن الوزن الذي طرحته هو (مستفعلن فاعلن فاعلن) والذي اختلط مع ما سمي باللاحق , وتبين لي فيما بعد خطأ هذا القول, بعد البحث عن أي نظم للشاعرة عليه أو ما طرحته عن الموفور.
الشاعرة نازك الملائكة في طرحها الذي أوردته كانت واضحة جدا وأنها تعمدت الوزن الذي طرحته لإضافة مساحة أخرى جديدة للشعر الحر واعتبرته وزنا صافيا أي تفعيلة واحدة معتمدة وهي (مستفعلاتن).
ولم تنكر الشاعرة أنها اعتمدت على وزن مخلع البسيط لاستنباط هذا الوزن بإضافة حرف آخر له والتعويض عن ثلاث تفعيلات بتفعيلتين لجعله وزنا صافيا يمكن اعتماده في الشعر الحر.
مستفعلن فاعلن فعولن
وبتحويل علن إلى فعْلن يكون:
مستفعلاتن مستفعلاتن * مستفعلاتن مستفعلاتن.
وتطرقت الشاعرة لمقارنة بين ما طرحته وما يتضمنه منهج الخليل.
ثم وضعت قالبا من قوالب الشعر الحر باعتماده:
مستفعلاتن مستفعلاتن
مستفعلاتن مستفعلاتن مستفعلاتن
مستفعلاتن
مستفعلاتن مستفعلاتن مستفعلاتن مستفعلاتن
وهذا المقطع من قصيدتها التي التزمت فيها الوزن الذي طرحته كما أوردته في الديوان المذكور بعد أن أوضحت أنها حادت عنه في أول قصيدتين لها واللتان تضمنهما الديوان أيضا.:
نجمة الدم (1975)
***
بيروتُ غابةْ
ومن دماءِ القَتلى على جفنِها سَحابةْ
أينَ تُرى البَحرُ ؟ ,
كانَ بالأمسِ ها هُنا يا بيروتُ بحرٌ
تكتبُ أمواجُهُ وتمحو , وينثرُ الشَّذر والغرابَةْ
يقرأُ تحتَ السَّماءِ في لهفَةٍ كتابَهْ
كانت هنا زرقة وشمسٌ ... وجاء عصرٌ
جَبينهُ يمطرُ الكآبْةْ
وتصرخُ الرِّيحُ, تصرحُ الرِّيحُ , ... في رتابَةْ
بيروتُ قبرٌ
بيروتُ قبرٌ
*******
وواضح أن الزحافات التي اعتمدتها الشاعرة الخبن والطي في الحشو كما اعتمدت زحافات أخرى في بعض القفلات, ونبهت إلى ضرورة عدم اعتماد أي زحاف عدا الخبن والطي في تفعيلات الحشو وهذا ناتج من تجربتها في القصيدتين الأولى والثانية .
لأن ما اعتمدته أحيانا من زحافات في القفلات أنتج (مستفعلاتن فعولن فعولن) وتقول الشاعرة أنها اكتشفت ذلك لكنها استساغت الوزن فلم تصحح في القصيدتين إضافة إلى رغبتها في المحافظة على بنيان ما نظمته.
وعلى أي حال فالشاعرة شرحت وجهة نظرها ومن أين استنبطت الوزن ولماذا ... فلماذا نخلط الأوراق ولماذا لا نعطيها حقها ومكانتها التي تستحقها لما قدمته ؟.
وبعيدا عن كل الخلط واللغط الذي تم من بعض المجتهدين أو النقاد كان لابد من هذه الوقفة لتقييم عمل الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة.
وتذكر الشاعرة في باب هوامش وتعقيبات في ديوانها المذكور وانطلاقا من أمانتها الأدبية أنها قرأت لأول مرة للشاعر الكبير معروف الرصافي في قصيدة له حيث ورد فيها :
***
سمعتُ شعرًا للعندليبِ
تلاهُ فوقَ الغصنِ الرَّطيبِ
إذ قالَ نفسي نفسي الرَّفيعةْ
لم تهوَ إلَّا حُسنَ الطَّبيعةْ
***
وكما تقول أن القصيدة ليست من مخلع البسيط إلا في أشطر معينة بل هي (مستفعلاتن مستفعلاتن) وتبين رأيها كما تبين أنها لا تعرف إن كان الرصافي قد تعمد ذلك أم لا, لأنها تعتقد أنه كان له رأي في مخلع البسيط, وتذكر أنه لم يتطرق له في أي من كتبه.
وأن هذا ما شجعها أيضا على طرح بحر الموفور (مستفعلاتن مستفعلاتن) كوزن صافٍ في الشعر الحر.
وأنا اعتمدت ما قاله الرصافي لبيان جواز ذلك في الشعر العمودي (بغض النظر إن تعمد الرصافي ذلك أو لم يتعمده, علما بأن البيتين أعلاه لا يمكن تقطيعهما عروضيا وفق وزن المخلع لأن التفعيلة الوسطى ستكون مفعولن – مستفعلن مفعولن فعولن)
لو افترضنا الآن أن الوزن العمودي هو ما طرحته الشاعرة وكما ورد أيضا في قصيدة الشاعر الكبير معروف الرصافي, وكما شجعها على تبني الوزن للشعر الحر:
مستفعلاتن مستفعلاتن * مستفعلاتن مستفعلاتن
والسؤال الذي يطرح نفسه إن كان وزنا عموديا فهل يمكن تدويره ؟
والجواب نعم أمكن تدوير الوزن وأنتج الأوزان التالية:
1 - مستفعلاتن مستفعلاتن * مستفعلاتن مستفعلاتن
2 - مفعولاتتن مفعولاتتن * مفعولاتتن مفعولاتتن
3 - مفاعيلاتن مفاعيلاتن * مفاعيلاتن مفاعيلاتن
4 - فاعلاتاتن فاعلاتاتن * فاعلاتاتن فاعلاتاتن
مستفعلاتن مستفعلاتن * مستفعلاتن مستفعلاتن
وإذا أردنا أن نأخذها وفق ما طرحته سابقا أن كل الشعر العربي يمكن تقطيعه إلى (فعولن فاعلن فعلن)
1 - فعلن فعولن فعلن فعولن * فعلن فعولن فعلن فعولن
2 - فعلن فاعلن فعلن فاعلن * فعلن فاعلن فعلن فاعلن
3 - فعولن فعلن فعولن فعلن * فعولن فعلن فعولن فعلن
4 - فاعلن فعلن فاعلن فعلن * فاعلن فعلن فاعلن فعلن
فعلن فعولن فعلن فعولن * فعلن فعولن فعلن فعولن
وهنا ستكون هذه الدائرة الخاصة بما طرحته نازك الملائكة اعتمادا على بحر الموفور باسم (دائرة الملائكة) تخليدا لها ولدورها الريادي في الشعر الحر.
أما عن التفعيلات الناجمة وصلاحيتها فمراجع العروض أوردت :
متفاعلاتن , مستفعلاتن (بترفيل التفعيلتين)
كما أورد الأستاذ العروضي الدكتور صالح عبد ربه أبو نهار في كتابه الموسوم (الرؤية الجديدة لموسيقى الشعر العربي قديمه وحديثه فصيحه وشعبيه) من خلال استعراض الأنفاس الشعرية لكل وزن وتفعيلة وقد وردت كل التفعيلات التي نتجت عن الدائرة في ما أورده واعتبرها أنفاسا مهملة في الشعر العربي القديم عدا (متفاعلاتن , مستفعلاتن)
وأضيف أن الشعر الشعبي العراقي تضمن أوزانا كثيرة تضمن أحدها وزن سمي (خايف عليهه) (مستفعلاتن مستفعلاتن , مستفعلن مستفعلن , مستفعلاتن)
وعلى سبيل المثال ما غناه الراحل ناظم الغزالي :
خايف عليهه تلفان بيهه
شامة ودكة بالحنج
من يشتريهه
وأخيرا فإنني أبين هذه الحقائق حفاظا على حق الشاعرة فيما ابتكرته وحاولت بعض الأقلام بوعي أو بدون وعي طمس الحقائق والإبتعاد عن جوهر ما طرحته بل وخلطه مع أوزان أخرى كمخلع البسيط أو وزن اللاحق .
وأدعو لقراءة ما كتبته الشاعرة بدقة خاصة ما ورد في مقدمة ديوانها وفي باب هوامش وتعقيبات الملحق بديوانها.
ودعونا من مخلع البسيط ومخلع المنسرح , ودعونا نناقش ما أضافته الشاعرة نازك الملائكة من تفعيلة صافية للشعر الحر , أما من يتحدث عن العمودي فعليه أن يتوجه بالسؤال لشاعر العراق الكبير معروف الرصافي ويسأله كيف نظم قصيدته على وزن بحر الموفور كما أسمته الشاعرة نازك ضمن قصيدة له .
رحم الله شاعرة الإبداع الكبيرة نازك الملائكة ورحم الله شاعر العراق الكبير معروف الرصافي.
وأضع مرفقا:
1 – مخطط بحر الموفور ودائرة الملائكة, وتظهر فيه أرقام الأوزان الناتجة من التدوير.
2 – مخطط للتقطيع العروضي لمطلع قصيدة نازك الملائكة التفعيلية (نجمة الدم)
ويظهر فيه باللون الأحمر مواقع زحاف مستفعلاتن بالخبن
3 – مخطط للتقطيع العروضي لبيت معروف الرصافي على بحر الموفور.
ويظهر باللون الأحمر موقع زاحاف الخبن في مستفعلاتن.
4 – لوحة تقطيع باعتماد فعولن فاعلن فعلن , وتظهر فيه أرقام الأوزان الناتجة من التدوير.
وقد اعتمد رسم المخطط البياني أيضا بتقطيع الأبيات بالفصل بين التفعيلات, ويمكن المقارنة مع كافة المخططات حيث تؤكد تطابقها.
وفي الجزء الثاني سأبين الفرق بين الموفور والمخلع اعتمادا على قصيدة للشاعرة نازك الملائكة.
وأرحب بأي نقاش وحوار حول الموضوع.
تحياتي وتقديري