السُّلَّمُ الموسيقي وسُلَّمُ الشِّعرِ العَربي
نعلم أن الشعراء العرب قبل ظهور علم العروض كانوا ينظمون الشعر على وقع موسيقاه ولم يكونوا يعلمون ماهية التفعيلات وبنائها وأوزن الشعر وبحوره, فالإيقاع الموسيقي هو الذي كان يتحكم بالنظم, وهذا ما يدعو للبحث عن العلاقة بين الشعر والموسيقى.
الموسيقى تحكم بها سلم موسيقي ومنذ ظهرت الموسيقى في الحضارات القديمة ومنها السومرية حيث عثر على ألواح طينية لألحان الأناشيد تمت ترجمته من قبل الباحثين, وأهمهم العالم العربي السوري راؤول فيتالي الذي ترجم لوحا سومريا ووضع لحنه بالحروف الأبجدية. وهذا يعتبر أقدم (نوتة) موسيقية في العالم فهو قد قدر أن يكون 1400 سنة قبل الميلاد .
وهذا يعني أن تدوين الموسيقى نشأ في حضارات وادي الرافدين.
ولابد أن نلقي نظرة على السلم الموسيقي والذي أصبح معروفا من قبل الجميع والذي وضع في إيطاليا بعد الميلاد ثم وضعت مكافئاته في لغات أخرى, وهو:
دو, ري , مي , فا , صو, لا , سي
وهذا اعتبره الموسيقيون قرار الأوكتاف والذي يجب أن ينتهي بجواب واعتبروه (دو) ولهذا يصبح الأوكتاف الموسيقي من قرار وجواب:
دو, ري, مي, فا, صو, لا, سي, دو
وسوف لن أتطرق لتطور السلم الموسيقي العالمي بل سأضع روابطا يمكن للمهتمين الإطلاع على ما فيها.
وسأركز على ما قام به الموسيقار الكبير صفي الدين الأرموي البغدادي (1216 – 1294 م) في العصر العباسي حيث يعتبر أول من وضع سلما موسيقيا باللغة العربية حيث اعتمد أول عشرة حروف أبجدية وبنى منها سلما موسيقيا ( أبجد هوّز حطّي ) واشتق منها سبعة عشر سلما موسيقيا وهو أول من وضع دوائر للموسيقى بلغت أربع وثمانون دائرة موسيقية كل منها يمثل مقاما.
وكان أول من وضع العلامات الموسيقية على أبيات الشعر .
وهذا يعني أن صفي الدين اشتق من السلم الموسيقي عدة سلالم موسيقية وذلك يتغيير تركيبة مقاطع السلم الموسيقي وفق نبرتها كما كان أول من وضع 84 دائرة موسيقية وفق مقامات النغمات والألحان, وهذا ينطبق أيا على الشعر العربي وما نتج منه من دوائر وبحور وأوزان انبثقت جميعها مما سأسميه سلم الشعر العربي.
ولو أردنا مطابقة السلم الموسيقي العربي مع السلم العالمي نجد أن الفرق مقطعان ولا أريد التوسع في كيفية معالجة الأمر من قبل صفي الدين لكنني سأفترض السلم الموسيقي هو:
أبجد هوّز حطّي كل
والذي يتكون من سبعة مقاطع تطابق السلم الموسيقي .
وكلنا نتذكر هذه الأغنية التي غنتها ليلى مراد في فلم (غزل البنات) عام 1949 مع نجيب الريحاني وكانت من تأليف حسين السيد وألحان موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب
أبجد هوّز حطّي كلمن
و الشطر الأول مثل أوكتافا موسيقيا شعريا بقرار وجواب من ثمانية مقاطع.
يكافئه عروضيا:
فعْلن فعْلن فعْلن فعِلن
ويكافئه موسيقيا:
دندن, دندن, دندن, دددن
ويمكن معرفة مكافئاته في العروض الموسيقي الذي ورد في بحث الدكتورة إيناس.
فقد وضعت الدكتورة إيناس موسى عبدالتواب دياب بحثا بعنوان :
"العلاقة بين الشعر والموسيقى من حيث الإرتباط بين صحة الإداء اللغوي للشعر والتقطيع الموسيقي في تدريس مادة العروض الموسيقي في الكليات المتخصصة"
تضمن جدولا يبين العلاقة بين المقاطع العروضية والمقاطع الموسيقية.
حيث ترجمت الرموز العروضية إلى نقرات وعلامات موسيقية كما تلاحظ في الجدول المرفق.
وما يهم الآن هو الوزن الأساس وإيقاعه.
كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) وصاحبه جابر بن عبدالله يسيران قرب الكوفة فاستمعا لدقات ناقوس أحد الأديرة الذي مروا به وكان الراهب يدق الناقوس, فسأل الإمام صاحبه: أتدري ما يقول الناقوس؟
فأجاب جابر: الله ورسوله أعلم
فقال الإمام:
حقًّا حقًّا حقًّا حقًّا * صدقًا صدقًا صدقًا صدقًا
إنًّ الدُّنيا قد غرَّتنا * واستَهوَتنا واستَلهَتنا
لسنا نَدري ما قدَّمنا * إلَّا أنَّا قدْ فرَّطنا
يا بنَ الدُّنيا مهلًا مهلًا * زنْ ما يَأتي وزنًا وزنًا
وواضح أن البيت الأول كان لوزن الإيقاع أما الأبيات الأخرى فجاءت على وزن:
فعْلن فعْلن فعْلن فعْلن * فعْلن فعْلن فعْلن فعْلن
أما عن (فعِلن) فقد جاء في الشعر العربي الكثير منها مما أهمله الفراهيدي لأن اعتماده كان يخل بما وضعه من قواعد وسبق وأن أوضحت ذلك في موضوع سابق.
ومن الشواهد ما ذكره أبو الحسن العروضي (المتوفي سنة 342 هجري) في مخطوطته (الجامع في العروض والقوفي):
أشجاك تشتُّتُ شِعْبِ الحيِّ فأنت له أرِقٌ وَصِبُ
( فعْلن فعِلن فعِلن فعْلن * فعِلن فعِلن فعِلن فعِلن )
فهذه القصيدة مشهورة ولولا الإطالة لذكرناها عن آخرها (كما يقول أبو الحسن) ,
وقوله :
زُمّت إبِلٌ للبَين ضُحى * في غَور تَهامةَ قد سَلكوا
( فعْلن فعِلن فعْلن فعِلن * فعْلن فعِلن فعِلن فعِلن )
وليست في شهرة الأولى , فأما المحدثون (لغاية إعداد الجامع في العروض والقوافي) فقد أكثروا من هذا الوزن,
من ذلك قوله:
أمن أجل مطوَّقةٍ هَتفَت * أسبَلتَ دموعك تنهملُ
( البيت مخزوم بـ أ : فعْلن فعِلن فعِبن فعِلن * فعْلن فعِلن فعِلن فعِلن )
وقوله :
يا دارُ كَستكِ يَدُ المُزُنِ * بُرُدًا بمُفوَّقَة اليَمنِ
( فعْلن فعِلن فعِلن فعِلن * فعِلن فعِلن فعِلن فعِلن )
وقوله:
رَحَلتْ بِسُمَيِّتِكَ الإبِلُ * فَثويتَ وعقلُكَ مَختبِلُ
( فعِلن فعِلن فعِلن فعِلن * فعِلن فعِلن فعِلن فعِلن )
وقوله :
سارَت بِمدائِحِكَ النُّجُبُ * وَجَزوكَ الخَير بِما احتَقبوا
( فعْلن فعِلن فعِلن فعِلن * فعِلن فعْلن فعِلن فعِلن )
******
وقد ورد شطر من الوزن في القرآن الكريم في سورة الكوثر:
" إنا أعطيناك الكوثر " * فعْلن فعْلن فعْلن فعْلن
كما ورد شطر من بيت في سورة العصر:
" إن الإنسان لفي خسر" * فعْلن فعْلن فعِلن فعْلن
وهذا ما يؤكد أن الوزن كان وزنا معتمدا وبكثرة في الشعر العربي القديم.
ولو ركزنا على أبيات الإمام علي ووزنها فهي:
فعْلن فعْلن فعْلن فعْلن * فعْلن فعْلن فعْلن فعْلن
وبعض المجتهدين بعد الفراهيدي حاولوا اعتماد تفعيلة (مفعولاتن) لتغطية هذا الوزن ليكون:
مفعولاتن مفعولاتن * مفعولاتن مفعولاتن
لكن هذه المحاولات لم يكتب لها الإستمرار لعدم وجود رؤية كاملة حينها.
كما أنها لا تغطي الوزن حين يكون فيه (فعِلن) ولهذا ستظهر حاجة لافتراض ما يلي وفق ما سأعتمده:
فعْلن يجوز أن تأتي فعِلن بتحريك ساكنها الثاني
كما يجوز أن تأتي (فاعلُ) بتحريك ساكنها الرابع (كما يأتي حاليا في قصائد الخبب)
إذن فالوزن الأساسي سييتراوح بين وزنين هما:
فعْلن فعْلن فعلن فعْلن
/ه/ه, /ه/ه, /ه/ه, /ه/ه
فعِلن فعِلن فعِلن فعِلن
///ه, ///ه, ///ه, ///ه
وإذا حولنا التفعيلات والرموز العروضية إلى (دندنة) فسيكون الوزن:
دن دن, دن دن, دن دن, دن دن
وهذه ترجمة موسيقية لصوت الناقوس التي ترجمها الإمام علي شعرا على الوزن الأساس.
أما إذا أردنا اشتقاق الوزن الثاني
دددن , دددن, دددن, دددن (بتحريك الساكن الثاني)
والخلط بينهما في وزن واحد يسمى حاليا (الخبب).
ونعرف أن العرب كانت تحب كثرة الحركات في الشعر وخير مثال هو ما نجده في الكامل والوافر, وهما مرتبطان أساسا ومتداخلان مع بحري الرجز والهزج.
وقبل أكثر من سنة وفي نقاش حول الخبب مع من اعتبره خارج منظومة الفراهيدي أو اعتبره جسرا بين الشعر والنثر طرحت حينها رأيي أن الخبب هو أصل الشعر العربي والذي منه انطلقت كافة الأوزان والبحور, كما هو السلم الموسيقي الذي اشتق منه صفي الدين 17 سلما موسيقيا و84 دائرة موسيقية مازالت كلها معتمدة لحد الآن. وقد وصف عمله بأنه أكمل عمل موسيقي لحد الآن.
وسأطرح رؤيتي في الجزء الثاني, وأترككم مع بعض الروابط والصور عن الموسيقى والسلم الموسيقي والدوائر الموسيقية.
واإطلاع على الصور المرفقة والروابط يمكن فتح الرابط التالي
https://web.facebook.com/groups/rabi...8/?_rdc=1&_rdr