«مدينة الضباب»
وفي نهاية الحكاية:
وماذا كنت أريد من تلك المدينة.. لا شيء تقريباً..
والحقيقة أنّي كنت أحسّ في قرارة نفسي وعلى مدى العشرين عاماً الماضية، وقبل أن ألتقي بهذه المدينة، أنّي آخذ من هذا العالم أكثر ممّا أعطي، أعبّ ما استطعت منها، أستجمع.. ربما ليومٍ ما..
ثم لمّا التقيتها هذه العنيدة لم أعد أريد شيئاً، بل كان كل همّي أن أعطيها ما جمعت في تلك السنين، وكان كل حلمي أن أذوب لها كالشمع لتضيء.. أن أسهر عليها لتغفو.. أن احتويها بكل ما لديّ.. لقد عملت جهدي لتضيء.. لتنّبعث من بين الألم.. لتفتح عيونها على عالم الحقيقية..
تركت عاداتي من أجلها، فلم أعد أجلس للقراءة ساعات طويلة، ولا أنام القيلولة، ولا أسترخي أوقات الفراغ، بل لم يعد لي منذ أن تشابك نبضينا فراغٌ ولا وقتٌ خاصّ لي، كل شيء كان لها.. وكان لها فقط.. لتلك المدينة التي لفظتني ذات اتهام!
*
لم أكن أنتظر من تلك المدينة بعد تلك السنوات سوى رسالة.. ممّن؟ لا يهم.. وما محتوى الرسالة؟ لا يهم.. فقط رسالة.. قصاصة ورقةٍ وبعض كلمات هي كلّ ما أردت!
أحقاً لم يعد أحدٌ في تلك المدينة الجاحدة يذكرني..
إحدى العجائز التي كنت أساعدهم في حمل سِلالهم.. الخبّاز في وسط الشارع المزدحم.. بائع الحلوى.. بائع الجرائد.. الشّرطيّ الذي علّمته كيف يكون شرطياً يحترمه الناس.. تلك الفتاة ذات العينين الوقحتين التي تشبه عيون قطّة، والتي لا شكّ أنها اليوم غدت عجوزاً ذابلة العينين.. المتسوّل الذي لم أبخل عليه يوماً بشيء، ولو بابتسامة؟!
رسالةٌ فقط.. قصاصةٌ وبعض كلمات.. أيّتها الجاحدة!
ولكن.. أعود وأتساءل: لو فكّر أحدهم أن يكتب لي رسالة، فأين سيرسلها؟
*
ويمضي الليل ثقيلاً، وأسهر والصّداع ينهشني، أفكر في تلك المدينة التي دخلتها ذات صدفة..
وهل الصدفة إلا قَدَر؟
وفي الصباح أتتبّع خطى الظاعنين أسألهم عن خبرها، فإذا أنا فيها متهمٌ.. خاذلٌ.. محطمٌ.. حتى ذلك المتسوّل الذي لم أكن أبخل عليه ولو بابتسامة صار يردّد الاتهامات ضدّي كبقيّتهم!
آهٍ.. ما تفعل الأيام بالبشر؟
مغرورةٌ أنت أيتها المدينة السابحة في أوهام عقلك الذي أخطأ طريقه..
لم يكن الأمر يحتاج أكثر من الوقوف تحت نبض الساعة القائمة على الجهة اليسرى من صدر المدينة، لمعرفة الوجهة الصحيحة، فدقّاتها بوصلة الحقيقة!
ولكن.. ما تقول وميزان الأرض يُخسر؟!
*
ويحدث أنّي بعد هذه السنوات أشتاق إلى تلك المدينة العنيدة التي لفظتني ذات اتهام!
تلك المدينة التي يطغي الضباب على معظم مشاهدها..
وأتساءل: أعود؟
فتتردّد على مسامعي كلمات محكمتها الأخيرة:
أخرج من هنا.. فقد أصبحت عبأً وثقلاً على هذه المدينة، وحجر عثرةٍ أمام مستقبل أبنائها.
فأنسحب.. ثمّ أنزوي في زاوية صمتِ اشتياقي!
*
ثم أنظر في الأرض فإذا هي زور، وأُصعد نظري نحو السماء فإذا هي نور..
فأغطّي الوجع بسجاف الصبر، وألملم بقاياي كجنديّ تخاذل عنه أصحابه ذات حرب..
كجنديّ مطعون في ظهره، بينما عدوّه أمامه!
فلتحتفل تلك المدينة إذن بانتصار كبريائها الزائفة، ولينتفش طاووس وهمها في جميع تفاصيل ملامحها، ولتملأ السماوات بأضواء ألعابها النارية التي تخطف الأبصار برهةً ثم تتلاشى، نعم تتلاشى، لأن الأرض زور.. والسماء نور.
*
كان ذلك الموقع أقرب ما يمكن له أن يكون فيه منها، وعندما لم يجد غير النُكران، حَمل زاده القليل وقِربة الماء، وأشاح بوجهه عن المدينة ومضى..
كانت شمس الأصيل تغادر وجه الأرض، تنسحب رويداً رويداً، وتسلخ نورها من ظهور الجبال والسهول، وتغور في أعماق الظلام!
وغار هو أيضاً في ظلمة ليلٍ بهيمٍ، ومنذ ذلك الحين ولم يسمع أحدٌ عنه شيئاً.
وعن غيابه وظهوره قِيلَ وقِيلَ..
وفي الحكايا كما الاساطير تعدّد وجوه النهايات.