«التنمية البشرية.. مراجعات وملاحظات»
«الجزء الأول»
(صدقوني يمكنكم أن تحققوا أي شيء تريدونه، كل شيء ممكن إذا اعتقدت أنك تستطيع تحقيقه، نعم يمكننا) (لا مستحيل) (أنا قادر) (أنا قوي) (أنا بخير)..
هكذا تروّج دورات التنمية البشرية، ويقدم الإنسان السوبرمان الخارق..
والواقع يكذّب ذلك، فالإنسان له قدرات محدودة، وكل إنسان أعطاه الله تعالى شيئاً يتميّز به وقدرة يعيش بها، فمن الناس من يملك ذكاء اجتماعياً، ومنهم من يملك ذكاءً رياضياً، ومنهم يملك ذكاءً خيالياً.. وهناك القائد والمقود، ومن يمتلك مهارات اجتماعية ومن يملك مهارات فكرية.. الخ.. فلا يمكن لإنسان أن يكون كل شيء.
كما أن هناك مستحيلات لا يمكن للإنسان أن يحققها.
فهل يمكن لإنسان أن يكون طبيباً وعالماً فلكياً وفيزيائياً ومؤرخاً وأديباً ناجحاً وتاجراً ومديراً لشركات ومؤسسات معاً؟
هذا الخطاب التنموي لا يعزّز قدرات الإنسان، بل يزرع فيه النرجسية والعجب، ويجعله يتعلق بأهداف غير واقعية وعائمة.
وعندما جاء أبو ذر رضي الله عنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يولّيه شيئاً، فقال له النبي: يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرنّ على اثنين، ولا تولين مال يتيم) رواه مسلم
فالنبي لم يقل له: لا مستحيل، وأنت قادر وقوي على ذلك، فقط آمن بنفسك وخذ دورة او تدرّب.
لا.. قال له النبي أنت لا تستطيع ذلك. نقطة رأس سطر.
التنمية البشرية تتجاهل حقائق الحياة وقوانين الأشياء ونشأتها وعللها وصيرورتها، وهي تلخص سنن تغيير النفس بسطحية ساذجة.
فالإنسان كائن معقد لا يمكن تغييره ببساطة في ليلة وضحاها، ولا في دورات تستغرق أياماً ثلاثة!
الإنسان تؤثر فيه موروثاته الجينية وبيئته التي نشأ فيها.. الظروف الاقتصادية.. الوضع النفسي.. المشاكل العامة والخاصة.. الخ.. والتنمية البشرية تدّعي تغيير كل ذلك ببساطة، على طريقة تعلم اللغة الإنكليزية في أسبوع!
نعم.. يمكن تعلم مهارة معينة من خلال الدورات، وأخذ بعض المفاتيح والملاحظات للاستفادة منها، ولكن عناوين تطوير الذات والخطوات السبعة للنجاح وكن مليونيراً بقوة الفكر، خطاب متعالي جداً ولا يفقه سنن الحياة وقوانين التغيير.
فما أرخص النفس البشرية!
يقول الدكتور عبدالله الهدلق في كتابه ميراث الصمت والملكوت: (هم يريدون أن يجعلوا من جندي فاشلٍ صلاح الدين في ثلاثة أيام، ولكن بثلاثمائة ريال!).
خطاب التنمية البشرية عاطفي وحماسي وتحفيزي، يعتمد على العرض المغري للمحاضرة (بوربوينت.. رسومات..)، وحركات المحاضر ولباقته في الكلام، بما يلامس المشاعر ويدغدغها، ويزرع التفاؤل الوهمي.
الخطاب العاطفي له تأثير مؤقت لا يدوم إلا بمقدارٍ قليل، فسرعان ما يذهب أثره وينطفيء بريقه، والحقيقة أن خطاباتنا معظمها كذلك، حتى خطب الجمعة، فكلنا نتحمس وقت الخطبة ولكن بمجرد خروجنا من المسجد، ووصولنا إلى البيت وتناول الغداء، يذهب أثر الخطبة وكأنّ شيئاً لم يُقل!
ومثل هذه الخطب والمحاضرات يجعل الإنسان يعيش في عالم وهمي موازٍ لعالم الحقيقة، مما يجعل الإنسان يعيش في حالة تخديرٍ عالماً وهمياً ممتعاً هرباً من الواقع المرير..
وما يغني عالم الوهم عن الواقع الثقيل؟
تصوّر أنك تشاهد فيلماً لبروسلي أو جاكي شان، فتتحمّس وتظنّ أنك قادرٌ على أن تفعل مثله وأن تواجه عشرة أشخاص بالضرب، فإذا بك وأنت المضروب وأن كل عظامك قد تكسّرت!
إن التحفيز والقناعة تنبعان من داخل الإنسان لا من خارجه.
والخطب العاطفية والتحفيزية تفيد في لحظات معينة، مثلاً قبل الالتحام بالعدو في معركة، فيدخل الجندي المعركة حينها بهذه العاطفة الجيّاشة والحماس المتّقد، وهذا شيء مفيد بالتأكيد، وبالتأكيد أيضاً فإن هذه الخطب لا تفيد في بناء قدرات الإنسان ولا في تطوير ذاته.
كما ترى أن محاضر التنمية البشرية يخاطب مئات أو آلاف الناس بدون مراعاةٍ للفروق الفردية، متجاهلاً أن لكل فرد شخصية مستقلة وظروف عامة وخاصة مختلفة، ووضع مالي ونفسي مختلف.
ويقدّم للجميع بدون تفريق قواعد النجاح وكأنها خلطة كعك جاهزة، متجاهلاً أن القوانين والخطوات التي تفيد فرداً ليس بالضرورة أن تفيد فرداً آخر، وأن ما تصلح لهذا لا يصلح لآخر.
فتعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد مثلاً لم يكن كتعامله مع ابن عباس، وتعامله مع ابن عباس لم يكن كتعامله مع أعرابي جاء يسأل النبي في دقائق عن أمور الدين، ثم يذهب وهو يقول لا أزيد ولا أنقص!
التنمية البشرية ليست علماً قائماً بنفسه، وإنما هي مزيج من السيكولوجي (علم النفس) والفلسفة وعلم الإدارة والبرمجة اللغوية العصبية ومجموعة من الدجل والشعوذة.
ومشكلة هذا المزيج أنه يتعامل مع العلوم التي يأخذ منها بسطحية، ويأخذ من كل علم تبسيط مخلّ للمفاهيم والمشاكل.
إن علم النفس قائم بنفسه، له نظرياته ومدارسه وقوانينه، يدخل في النفس البشرية بطريقة متكاملة، تاريخ الإنسان.. بنيته السلوكية.. ظروفه.. مشاكله.. بيئته، من غير تجزئة وتفتيت لهذا الكائن..
يبدأ بالمقدمات والأسباب لينتهي إلى النتائج.
ولكن هل تفعل التنمية البشرية ذلك؟
وما يقال في تناول التنمية البشرية لعلم النفس بطريقة سطحية يقال عن تناولها لعلم الإدارة وغيرها.
والإنسان الذي يأخذ تلك النّتف من تلك العلوم عن طريق التنمية البشرية سينصدم عند التطبيق، ويكتشف الفجوات والثغرات الموجودة بين المعلومات والمفاهيم السطحية التي ملأ بها رأسه وبين الواقع.
التنمية البشرية خرجت من عباءة الفكر الرأسمالي، حيث الفرد هو القيمة الأولى والنهائية، وحيث فكرة تعظيم الفرد وتقديسه، والحرية الفردية، ولهذا كثيراً ما تسمع في مجال التنمية البشرية عبارات تقديس الفرد.. أنت قادر على كل شيء.. أنت تستطيع تحقيق ما تريد.. أنت وأنت.. إلخ..
صحيح أن الله تعالى كرّم الإنسان وسخّر له ما في السماوات والأرض، لا ليطغى وينتفخ كبراً ونرجسيةً، ولكن ليتواضع ويعمل على تحقيق خلافته في الأرض، والقيام بمسؤولية الإعمار المناطة على عاتقه.
وأيضاً فإن معيار النجاح كثيراً ما يدور في فلك المال.
وربما الأمثلة التي تقدّم كثيراً في قصص النجاح هو مثال الشخص الذي كان فقيراً معدماً، ثم بدأ يعمل نادلاً في مطعم.. إلخ.. ثم أصبح مليونيراً وصاحب شركات.
ولكن هل المال هو معيار النجاح، أو حتى النجاح هو فقط في الإدارة أو ريادة الأعمال التي أصبحت موضة في هذا الزمن؟
هل فعلاً يمكن للجميع أن يكونوا روّاد أعمال ناجحين، وأصحاب مشاريع حرّة، ومستعدّين أن يستقيلوا من وظائفهم وأعمالهم للبدء بمشاريعهم الخاصة؟!
ألا يمكن للإنسان أن يكون ناجحاً في وظيفته.. في بناء أسرة ناجحة.. في عمل خيري.. في الدعوة.. في امرأة تكون ربة بيتٍ ناجحة..الخ؟
ولنكن واقعيين.. ليس كل الناس يمكن أن يكونوا قادة، بل هناك القائد والجندي.. الأمير والمأمور.. و "طُوبَى لعبدٍ أخذ بعنانِ فرسِه في سبيلِ اللهِ أشعثَ رأسُه مُغبَّرةٍ قدماه إن كان في الحراسةِ كان في الحراسةِ وإن كان في السَّاقةِ كان في السَّاقةِ إن شفَع لم يُشفَّعْ وإن استأذَن لم يُؤْذَنْ له".. فتأمل رعاك الله!
وثمة شيء آخر..
يروون لنا قصص النجاح وكيف أصبح الفقير غنياً، ولكن لا أحد يقول لنا أو يسأل كيف كسب هذا الشخص المال؟
هل ظلم.. هل أكل حقوق الآخرين.. هل طرد الناس من العمل، من منازلهم.. هل أهدر كرامة الإنسان.. هل مارس تجارة غير شرعية.. غسيل الأمول.. رمي ملايين الأطنان من الطعام في البحر للحفاظ على السعر المناسب للسوق ومن أجل أن يزيد صفراً آخر أمام الرقم في رصيده المصرفي؟!
كل ذلك لا يهم عندهم، فقط أصبح غنياً وهذا هو النجاح!
أين المعيار الأخلاقي؟