الألفة والروح الحية في رواية تاريخية
قراءة لرواية " جبل السمَّاق " سوق الحدادين .
للأديبة / إبتسام تريسي .
الافتتاحية :
في إحدى الصباحات البائنة التي علت آفاقها ذرات تتصاعد تارة وتهبط تارة أخرى , رفعت وجهي المهزوم والمرسوم على تضاريسه إمارات الإنهاك والخمول إذ بيد مجدبة تناولني مظروفا أبيضا . هذا لكِ . وصل بالأمس ولأنك لست هنا حفظته لكِ , امتدت يدي لترى على عجل ماذا يحوي !! فإذ برواية " جبل السماق " تسكن بهدوء داخل المستطيل الأبيض . وإذا بي أبدأ رحلة القراءة .
بداية :
تقع الرواية في أربعمائة وثلاث وثلاثين صفحة , مكونة من سبعة فصول . يتجلّى في هذه الرواية إبداع الروائية " إبتسام تريسي " باسترسالها في صنع وبناء تاريخ حافل بالثورة والهجوم والبحث عن الاستقلال ومن ثم الخروج من ظلام العتمة متوجهة نحو شمس الحرية .
ضخت الكاتبة في روايتها الروح والحركة واستنتاج النتائج ، كما قامت ببناء سردي محكم كما سنرى في قراءة العمل .
أجمل ماتميزت به الروائية ذكرها تفاصيل الحياة اليومية بدقة متناهية متنقلة بنا بين المنازل والحارات والمزارع والأزقة والخانات والبساتين وسوق الحدادين والسجون والمغارات وداخل المعتقلات والنوافذ الحالية التي يلتقط من هو مأسور بداخلها ملمح المارة وإطلاقه الزفرات والأشواق . أيضا مقاعد المدارس " المكاتب الفرنسية " ومخازن الذخيرة .
الأحداث دارت في شمال سوريا " موطن الأديبة " , واجهتني شخوص عدة وأحداث ضروس تأثرت بها كثيرا حتى أنني في بعض الفصول كررت قراءته . البعض من هذه المعمعات وصلت لنهايتها في نفس اللحظة والبعض تأخر وصولي طويلا ، وشعرت أنني أوشكت أن أضيع في الإمساك بخيط الحل حتى وصلت لآخر الأحداث ليتضح لي كل ماكان مختبئا .
امتدت ساحة الأحداث طويلا وتشعبت في جهات عدة ، ولاغرابة في ذلك لأن الكاتبة تعرض أمامنا تاريخ وطن بأكمله , وكل مكان أوجه إليه بصري في الرواية إلاّ ويحتم عليّ التوقف، ولقد أجبرت كثيرا على التوقف المتكرر لأربط تلك الأحداث الشائكة مع بعضها البعض , ولأتأمل ملامح مكانية مرتبطة بشكل رئيسي مع سير خط الرواية .سواء ماكان داخل حدود المقاومة أو داخل الثكنات العسكرية الفرنسية .
الشخصيات :
هناك شخصيات عديدة قابلتها وقد تعرفت عليها منذ البداية لأسير برفقتها وأنا أعلم ماذا تخبيء , والشخصيات إما رئيسية أو ثانوية . منها مالعبت دورا كبيرا في بداية ووسط الأحداث واختفت ليتراءى دورها بآخر فصل .
ومنها ومن خلال السرد عرفناها من خلال هيئتها وتصرفها وطبيعة نفسيتها " كحويسي , وحمندوش , وبعض الأفنديات , والجنود الفرنسيين .
ومنها من كانت لها مكانة لاتتزحزح كإمام الجامع والمسجد " الشيخ مواهب " و " هاشم أفندي " أيضا من له بعض الكرامات كأولياء الله الصالحين .
بطل الرواية هو " إبراهيم "ذو الجسد الصغير , المعاون الأول لوالده في مهنة الحدادة رغم تذمره منها أو" لنقل المجبور على مزاولتها " أيضا لابد أن نتوقف عند الات الحدادة الملازمة للبطل والتي ذكرت في الرواية مثل " الملاقط , السندان , المنفاخ , والكير , والشحار , والشطيخ , برادة الحديد , المسننات "
الكاتبة لم تغفل عن ذكر الأبطال اللذين خططوا لاستعادة سوريا مثل : إبراهيم هنانو , نجيب سخيطة , أمين الحرصوني , مصطفى المحلول , أبو عدلا , يوسف الأسود , أبو فلان .
نوهت الروائية في الصفحات الأولى إلى أن معظم أبطال الرواية عاشوا في بلدتها الصغيرة المنسيّة في الشمال السوري .. وثمة شخصيات اقتضتها الضرورة الروائية .
أيضا لابد من ذكر مجتمع سوق الحدادين كمحمد الخير " أبو الطاهر " والد البطل إبراهيم , وكان هو الزعيم لأغلب محادثات المجتمع , وعبد الحميد ومحمد علي .
زوجتا محمد الطاهر هما أم إبراهيم التي لم تظهر بدور بارز في الرواية رغم بروز ابنها , وفاطمة الزوجة الأخرى له والتي ظهرت في أغلب فصول الرواية من حيث اهتمامها بالمنزل , والحرص على عناية الأبناء , والدفاع الدائم عن إبراهيم وقت هجوم الوالد عليه .
ظهرت أيضا لحلوحة السجينة والتي استطاعت الهرب من سجن الحويسي الذي حرمها حتى من استنشاق الهواء بفضل مراقبته المستمرة لها .
أيضا فضة التي كانت في كل مرة ترجو التخلص من آثامها واللعنات المحيطة بها .
تعدد الشخوص بصورة كبيرة ومؤثرة ساعدت على دفع الأحداث بفضل قوة الصراعات المثيرة التي حدثت بينها وظلت ثائرة دون توقف ، كما أعطت مساحة عريضة للحركة دون أن نخشي الملل او تكرار الأحداث .
هذه سمة للروائية والتي ارتبطت بوصف الحياة اليومية بدقة متناهية .
الجانب النفسي
الجانب النفسي في الرواية برز لنا بشكل كبير جدا ولعل تصوير ماحدث لنجيب سخيطة أثناء القبض عليه والتنكيل به ومن ثم اعتقاله وترك ساقه داخل سجنه لتعطي دلالة على تصوير الكاتبة الفاهم والقوي للأحداث , واستنطاقها اليقظ لتلك الشخصيات .
أغلب صور المجتمع نقلتها لنا كالألعاب " الصيّاح , والدحل , والجتا الفرنساوي " الخضراء وهي الدابة التي تقوم بنقل الحاصلات للسوق أيضا الديك العشيري . الحكايات لها دور ومكان ولم تغفل عنها وهي تردد على مسامعهم كل مساء " كعنترة وأبو زيد الهلالي ."
الأماكن :
الأماكن في الشمال السوري عرفناها من خلال الأحداث كـ شباك الخان , والحارة الغربية , وقرية السرجة , وسهول القمح , واستنبول , وحلب , وقرنة الحائك , بيت الأمة , وقرية أرم الجوز , المعرة , أريحا , أدلب , رأس الزابوق "
في الرواية وجدنا موقفا تصادمية يبقى المؤث ويتلاشى العكس , بينما بقيت مواقف إبراهيم مع والده " محمد الخير " بارزة وظاهرة بشكل كبير خاصة حينما أراد التعليم وترك مهنة الحدادة , أيضا موقف نجيب سخيطة أمام الاستعمار حال القبض عليه ووقت ووجوده داخل السجن , المرأة التي ولدت من فارس بك وصدع عنها وعدم اعترافه به ... لاننسى مواقف الزعماء المواليين لفرنسا على حساب الحد من حرية الشعب السوري وبيعهم الأسلحة وعقدهم الاجتماعات التي تجهض أحلام الاستقلال .
الأزمنة :
فصول السنة كانت بمثابة الجو اللطيف الذي بعثته الكاتبة إلى فصول الرواية , وكيف لا وسوريا أصلا هي إحدى بلاد الشام وتتمتع بطبيعة خلابة جميلة ظلت تطوف أمام خيالها أثناء سردها فزجت بها من خلال فصول الرواية لتنثر دررا فنية تزيد من لمعان وتوهج الأحداث كقولها " عبّ هواء الخريف القادم بملء رئتيه , عانقت أشجار الزيتون والتين عينيه بإلفه , ضحكت له ثمار التين الناضجة بلونها الأصفر الفاقع والأحمر القرمزي ..... "
أو .." فاجأك حزيران بغزارة أمطاره , ليست ظاهرة المطر في حزيران غريبة على جوّ الأربعين .... "أو " رحل الربيع حاملا في جعبته غيومه البيضاء وأمطاره وشقائق النعمان , مانحا الشمس فرصة لإنضاج الثمر , وترك المراعي مقفرة من الحشائش الطرية ...."
أو " سحب الصيف الكئيب ذيول حزنه , تاركا ذيول حزنه , تاركا الأوراق الذابلة تغزوها الصفرة والريح المغبرة ترتع في الأزقة ..... "
صور حية من الماضي :
من مظاهر الحياة المكررة التي بسطتها الكاتبة مظاهر التعليم من كتاتيب الشيوخ إلى مدارس " مكاتب " يتوفر فيها كل مايحتاج الطالب , وفرض المستعمر هيمنته على مناهج التعليم , وانقسام المعلمين إلى قسمين بين موالٍ ومعارض للاستعمارن وهو ما يتكرر دائما في المحن التي يتعرض لها الوطن ؛ فالشدة تكشف المعدن هل هو أصيل أم خسيس .
الأعمال اليومية المعتادة برزت بين فصول الرواية كاصطفاف النسوة على شكل حلقة في أرض الدار , ووضعهن القمح بالرحى ويأخذن بتحريك اليد الخشبية لتنزل حبات البرغل المطحون , وتتصاعد الأغاني مشجعة الصبايا كصوت أم الصادق :
شدوا يابناتي شدوا بكرة بجوزكن ..
ترد الصبايا متسائلات :
لمين ياميمة لمين ؟! تترنم أم الصادق بكلماتها :
لجارنا أبو محمد , زين الشباب ....ومن صور إعدادهن للأطعمة في تلك الحقبة :
تربع الموقد في صدر الغرفة و" مرد " الماء في أرض الدار , تجمعه في علبة صفيح تضعها فوق الموقد .
أيضا إذابة الدبس بالماء ووضعه على النار وتحريكه مع النشا .
توليفة وألفة :
إبتسام تريسي في روايتها جعلتنا نشعر معها بالألفة والتعاطف نتيجة قلمها الصادق ونضج تجربتها ، فقد جسدت بقعة غالية من وطنها من خلال فصول راعت فيها الزمن والمكان والحدث والشخوص والصراع والبعد النفسي , ومزجت كل هذه التوليفة لتخرج لنا " ثورة الجبل وصراعها مع المستعمر , وحلمها بشروق شمس الحرية " .
وكل ماصاحب وأحاط بثورة الجبل أحضرته لنا كانه معاصر لنا وحاضر بقوة التجسيد ، واجتهدت في تلك التفاصيل الدافعة للاستزادة من تصاعد الأحداث ، وتلونها ، وربما تقاطعها لتمنحنا قدرا من التاريخ متضافرا مع القدرة الرائعة على التخييل .
وهي في مشوارها السردي ومشروعها الإبداعي تكون قد اكملت صورة وطنها الأبهى لتصل إلينا عناصره الحكائية الحية بكل قوتها واضطرابها وهديرها وتسامحها وتضحياتها والآمها ودموعها مكللة بنتيجة أكيدة وساحقة وهي تحرير الوطن .
على هدير بوسطة أبو النوري تسمرت وثرت وابتسمت وتعجبت بجبل السماق .
إبتسام أقف لك احتراما ، وأحييك على هذه الرواية التي شغفت بها كثيرا فلم أجد تحية أفضل من أن اقدم لها هذه القراءة البسيطة .
أعزائي :
هذه القراءة الأولى التي أقوم بها اتجاه رواية أتمنى أنني وفقت وأريد منكم التوجيه ..