عرفة
وحيدا يجثم في القصيّ البعيد
تسلقه آهات الشوق و زفرات الحنين ؛ ينتظر نهارا يحيا فيه هو النهار الوحيد.
تسكنه الريح من قبل ومن بعد ، و يَسكن الروح في كل حين .
عارٍ إلاّ من حبّات القلوب و لألاء العيون .
قامة آمادها تربة و صخور وسنا ظلالها ضياء و نور .
نقطة هو على حروف الأرض تكمل الدائرة .
هو المبتدأ و الخبر في آنٍ معا ؛ هو الحجّ و الحجّ هو .
الحجّ عرفة .
هكذا في كلمتين منفصلتين متّصلتين يختصر الكلام ؛ يغدو الوسيلة و الغاية .
تُشدّ إليه العزائم بعد الشروق ، فترى القوافل تُسابق القوافل للفوز بموقف صدق عنده ، فيروح يفسح لها في هضابه صارخا : هل من مزيد ؟
تزرع الجحافلُ البيضاء أقدامَها في أرضه و عيونَها في السماء ، رافعة أكفّ الضراعة ، كاشطة عنها ذنوبا أثقلت منها الكواهل و أرّقت فيها العيون، و هو لا يني يغسل عنها الأدران و يُلبسها أثواب التقوى و المغفرة ؛ فإذا بياض القلوب يُضاهي بياض الجبل و إذا الموقف صفاء في صفاء و إذا الصدور نقاء في نقاء ؛ و إذا الألسن تلهج بالدعاء ؛ صوت واحد يرجّ الأرض و يستشفع السماء معلنا عهد التوبة أمام الرحمن . و إذا الجواب ينساب من فوق العرش : اذهبوا فأنتم العتقاء .
إنه الحشر الجميل ؛ إليه يهفوالمؤمنون طائعين مختارين يتمنون أن تعلن الأرض إضرابا عن الدوران ، غير عابئين بسهام الشمس تخترق الرؤوس و تحرق الأكباد تُجفّف منابع الشرّ و الشيطان و المكر و النفاق ولا ترحل إلا و قد ذاق الحجيج حلاوة التوبة وسعادة المغفرة ولذائذ الإيمان ؛ نادمين على ما فرّطوا في جنب الله متوعّدين إبليس اللعين بجمرات تزيد احتراقه احتراقا عازمين على ألا يعودوا إليه إلا لاعنين متبرّئين من وساوسه إلى يوم الدين .
وتغفو الشمس و عيون الحجيج معلّقة بالجبل تغسل حجارته بالعبرات قبل الوداع
تحفر في الصخر: إنّا ها هنا يا جبل التوبة ولن تبقى وحيدا تجثم في القصيّ البعيد .