المشاركة الأصلية كتبت بواسطة براءة الجودي
حقيقة قدمت نقدا مدهشا ورائعا بمعنى الكلمة ينم عن ذكاء وبعد نظر وفهم عميق وتحليل علمي دقيق
أتمنى بحق أن تكملي ماتبقى منها فلم تبق إلا أبيات قليلة
وأود أن أعرف على أي بحر هذه القصيدة ؟
أولا: صدقيني براءة ، أحيانا نحتاج لكلمات قليلة كي تحفِّز فينا الدافع الذي خبا ، فتثير حماستنا وتدفعنا للمثابرة والاستمرار بعد أن كاد يستولي علينا الشعور بالتكاسل والرغبة بالتقاعس.
وتلك هي الكلمات القليلة في قولك أعلاه:
"أتمنى بحق أن تكملي ماتبقى منها فلم تبق إلا أبيات قليلة "
فسأكملها بإذن الله تحقيقاً لرجائك وتلبية لتشجيعك . ولك مني كل الشكر والتقدير والدعاء بالمسرة والرضا من الله.
وأما بحر هذه القصيدة فهو الكامل الأحَذّ ( متفاعلن متفاعلن متفاعلن = متفاعلن متفاعلن متفا)
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة براءة الجودي
والأمر الثاني ..
كان أيام الدولة الأموية حسب ماأتذكره أن هناك مدرستين في الغزل :
مدرسة الغزل الحسي ( يركز على جسد المرأة) وأبرزهم فيه : عمر بن أبي ربيعة القرشي في الحجاز
مدرسة الغزل المعنوي ( يركز على مشاعر الحب والأشواق والحنين ) ومنهم كثير : كقيس وجميل وغيرهم وكانوا في نجد
وبتحليلك في هذه القصيدة ذكرت أن الدكتور سمير العمري قد أتى بما لم يأتي به السابقون في الغزل
والنقطة التي أريد منكم توضيحها هي :
أليس شعره يُصنّف ضمن مدرسة الغزل المعنوي ماكان عليه قيس والآخرون ، فهم لم يتطرقوا إلى جسد المرأة أكثر مما شرحوا أشواقهم وحبهم وفراقهم مع المرأة ؟
وهل برأيك أن شاعرنا القدير الدكتور سمير أضاف الجديد وطور في هذه المدرسة الغزلية المعنوية بحيث تكون إضافة قد تفرّد فيها عن شعراء الغزل المعنوي المتقدمين ؟
أظنها نقطة نقاش جيدة تحتاج لإجابة فريدة ورائعة منك للتوضيح بشكل أدق في هذه الناحية
جدا استمتعتُ وأنا أرى رشاقة قلمك وهو يخط الحروف النقدية بكل أناقة لتظهر لنا ألوانا جميلة تحكي عن كل لوحة من لوحات القصيدة
مودتي وتقديري
براءة الجودي
الأمر الثاني
أما مدرسة الغزل الحسي(الإباحي ) فهي الأصل في شعر الغزل العربي وقد سبقت في تاريخ ظهورها مدرسة الغزل العذري (المعنوي ) التي ظهرت معالمها منذ فجر الإسلام واتضحت في العصر الأموي علي أيدي الشعراء العذريين ، فمدرسة الغزل الحسي تعود إلى العصر الجاهلي الذي تناول فيه الغزل جسد المرأة فقط دون أن يلامس تكوين شخصيتها أو ملامحها النفسية الأنثوية إلا ما ندر جداً .
وأما إجابتي عن سؤالك حول تقييم ما أضافه الشاعر الكبير د. سمير العمري إلى المدرسة الغزلية المعنوية من حيث اعتبار إضافته الشعرية متفردة وتسبق ما قدَّمه شعراء الغزل المعنوي (المتقدمون) ، أقول : إنني حكمت بهذا على هذه القصيدة فقط ولم أطلق حكماً عاماً على كامل شعر الغزل عند الدكتور سمير العمري. وذلك لأن إطلاق مثل هذا الحكم يحتاج أولا إلى دراسة وافية وشاملة لجميع نصوص شعر الغزل عند الدكتور سمير .وبدون هذه الدراسة الشاملة والمتأنية لا يحق لي تقييم شعره الغزلي كاملا. . فكلامي إذن حول أسبقية وتفرد خطاب الشاعر العمري للمرأة يخص هذه القصيدة .
وقد قلت في مقدمة هذه القراءة النقدية
"وعندما أقرأ (كامرأة ) شعرا لشاعر معاصر يخاطب امرأة ، سرعان ما تقودني قراءتي للتعمق في ما هو كامن وراء أسلوب الشاعر من تقييمه الإنساني لمخلوق استوطن ملكوت الشعر منذ أن دنا إليه خيال الشعراء ( المرأة ). فلا زلت أقرأ المرأة عيونا، ورموشا ،وخدودا ، وجيدا، وخصرا.
ولازلت أقرأ العلاقة معها : شوقا وعشقا وسهدا وأسرا.
ولست أمانع إن فعل ذلك الشعراء وهو ديدنهم وجهدهم.
ولكنني يلفت انتباهي أن يرى شاعر امرأة رؤية شاعرية وجدانية غير ملتزمة بموروث الشعراء الرجال من كيفيات التقييم والتعبير .
الشاعر الكبير الأستاذ د. سمير العمري يمتلك تلك الرؤية التي تستشف الداخل الأنثوي استشفافا لا يدعك تخرج عنه لتبحث عن الجسد بعد .
وفي هذه القصيدة ( صلاة شوق ) يتلو علينا تعاليمه الوجدانية التي تفتح للشعراء مدرسة جديدة لفنية ابتثاق الخطاب الشاعري الوجداني للكائن الأنثوي الداخلي (المرأة ) دون المرور بحواجز الجسد المهيمنة .
هي إذن قصيدة ذات رؤية متفردة . تمثل اختراقا للعرف التعبيري عند الشعراء الرجال.
وسنلاحظ كيف أبدع الشاعر باللمس العميق والتصوير النافذ الدقيق لمعانيه المبتكرة التي ما راودت خيال شاعر سواه من قبل ."
غير أنني سأجيب من خلال قراءتي لهذه القصيدة وبالتفصيل عن سؤالك الجميل أعلاه
"أليس شعره يُصنّف ضمن مدرسة الغزل المعنوي ماكان عليه قيس والآخرون ، فهم لم يتطرقوا إلى جسد المرأة أكثر مما شرحوا أشواقهم وحبهم وفراقهم مع المرأة ؟"
أقول : لا .
من وجهة نظري ، أرى أن خطاب المرأة في هذه القصيدة لا يُصنَّف ضمن مدرسة الغزل المعنوي . ولا يماثل ما كان عليه الغزل عند قيس بن الملوَّح أو جميل بن معمَّر او كثير عزة وغيرهم...
لماذا ؟
لأن جميع من ذكرتُ من الشعراء العذريين لم يفارقوا أصلاً مدرسة الغزل الأصلية التقليدية من حيث وصف لواعج الشوق ومعاناة العشق والوجد والفراق عن المحبوبات . فخطابهم العام للمرأة يعكس مشاعرهم تجاهها دون أن يستشف كيانها الداخلي أو ملامحها الأنثوية الداخلية . وهذا أمر يبرره من وجهة نظري بساطة الملكة الفكرية عند أولئك الشعراء وعند محبوباتهم أيضاً. فخطاب المرأة في تلك الحقبة الزمنية من التاريخ محكوم ببساطة التفكير وبساطة العواطف وعدم تعقيدها على الرغم من عمقها وشفافيتها وتأججها عند الشعراء .
بينما نقرأ في الخطاب الغزلي عند الدكتور سمير نضجاً فكرياً غير مسبوق يستشف الداخل الأنثوي في شخصية المرأة ويعكسه عكساً تعاطفياً دون أن يتولى مهمة التعبير عنها بلسانها . كما فعل نزار قباني الذي استعار لسان المرأة لينطق به مدعياً التعبير عنها في حين أنه انزلق بخطابه الغزلي ليعبر عن الرغبات الجنسية المكبوتة عند الرجل نفسه. ففشِل نزار وهو من شعراء الغزل المعاصرين في استشفاف الداخل الأنثوي لأنه فرض شخصيته الذكورية على شخصية المرأة التي أراد أن ينطق باسمها.
إذن ما الذي يميِّز الخطاب الغزلي عند الدكتور سمير في هذه القصيدة على الأقل ؟
1- يميِّزه أنه عبَّر عن داخل المرأة الخاص بها من وجهة نظره وكما يراه هو في سياق الخطاب الغزلي ، ولم يكتف بالتعبير عن مشاعره تجاهها ، فهي ليست مجرد شخصية متلقية مستجيبة لعاطفة العشق بالصد أو بالإقبال . بل هي شخصية إنسانية موازية في اكتمالها وعمقها واستقلالها عنه من قبل أن تستقبل عاطفة العشق ومن بعد استقبالها لها . وهذا ما لم يلتفت إليه شعراء الغزل المعنوي من قبل، وما كان لهم أن يلتفتوا إليه بحكم بساطة بنية التفكير عندهم.
2- ويميِّز الدكتور سمير أنه عبَّر عن الداخل الأنثوي دون أن يدَّعِي أنه يتكلم بلسان المراة كما فعل نزار قباني.
وأسوق إليك هذا البيت وقراءتي له للاستدلال على هاتين الميزتين:
يقول الشاعر في هذه القصيدة
فَـإِلَامَ تُجْفِلُـكِ الرِّيَـاحُ وَقَـدْ قَـضَـتْ = أَلَّا تُـقِــيــمَ لِــطَــائِــرٍ وَزْنَــــــا
لذا، وﻷن المحاورة مع الداخلي الأنثوي نجد الآن هذا الخطاب الذي يدرك فيه الشاعر موقفا إنسانيا أنثويا تجفل فيه المرأة من الرياح التي اعتادت أن تجفل منها في كناية عن الظروف الاجتماعية التي تؤثر في المرأة وتمنعها من المثابرة والإقدام. فالمرأة " طائر خفيف الوزن " طائر ينشد التحليق وهو مهدد بالرياح التي تجفله وتخيفه وتجعله يحجم عن الطيران.
فَـإِلَامَ تُجْفِلُـكِ الرِّيَـاحُ وَقَـدْ قَـضَـتْ
أَلَّا تُـقِــيــمَ لِــطَــائِــرٍ وَزْنَــــــا
ذلك القضاء وذلك الحكم بأن لا يقام وزن للطائر .هو الاستهانة التي تعانيها كل أنثى أو كل امرأة محاصرة بخوفها ﻷنها أنثى .فإلام تجفلك الرياح؟ ويستحثها الشاعر على أن تصمد فلا تجفل . إذ لا ينبغي لها أن تجفل من رياح عاتية ظالمة .
مثل هذا البيت أقرؤه كامرأة فأرغب بالبكاء .ﻷنه يستوعب بمفرداته معنى وجدانيا لا يطاله شاعر رجل فيما عهدناه في الشعر الذكوري.
والصورة الشعرية هي الأولى من نوعها إذا اعتبرنا هذا المعنى الوجداني معيارا لها. ﻷن هذه الصورة تجعل الخارج متشحا بالانفعال الداخلي . فصورة طائر يطير في الرياح فيجفل منها وهي تقلبه في جوفها وتعيق حركته بسبب خفة وزنه التي تغريها بإفشال محاولاته بالتوازن والاستمرار. وهي تعيد ذلك كلما حاول الطيران من جديد .
لننظر إلى طريقة التعبير في تساؤل الشاعر " إلا م"
إن هذه ال "إلى م "اختصرت زمنا طويلا من مكابدة الرياح ومن رد فعل الخوف منها.
ولننظر إلى الجملة " تجفلك " ودلالة الإجفال تختلف عن دلالة الإخافة بكون الإجفال يتضمن المباغتة والمفاجأة المقصودة في التخويف. فمن يجفل يجفل من الطوارئ المباغتة التي تواجهه دون سابق إنذار .
وهنا نرى حركة الطائر المسكين الذي يفقد توازنه بعد أن علق في جوف الرياح التي تستخفه وتستهين بوزنه فيجفل ويجفل في كل مرة.
الحركة والانفعال يمثلان عنصر "الحيوية " الذي أراه أروع عناصر التشكيل الجمالي .
...أرجو أن أكون قد أقنعتك بهذا النقاش أستاذتي الكريمة براءة الجودي
تحيتي وتقديري