قراءة في قصة " عبده الوزير .. إزازة سابقا " للدكتور محمد عمر
بقلم / مجدي جعفر
ستظل شخصية ( عبده الوزير .. إزازة سابقا ) عالقة بذهن المتلقي، لاتغادر عقله، ولا تبرح خياله، تخايله في صحوه ومنامه، يستعيدها مرات ومرات بكل تفاصيلها وسلوكياتها وممارستها الحياتية، يستعيدها برسمها وسمتها، بشحمها ولحمها، فهي تمثل شخصية الانتهازي في زماننا أفضل تمثيل!.
وسنحاول أن نُسكت صوت النداهة بداخلنا، ولن نستجيب لغوايتها لنا بمقاربة شخصية ( عبده الوزير .. إزازة سابقا ) بشخصية ( محجوب عبدالدايم ) لكاتبنا الأكبر نجيب محفوظ، فزمن نجيب محفوظ يختلف عن زمن الدكتور محمد عمر، وشخصية ( عبده الوزير .. إزازة سابقا ) إذا كانت تتماس مع شخصية ( محجوب عبدالدايم ) في بعض النقاط، فإنها تختلف معها في نقاط أخرى كثيرة، ولن نتوقف في هذه القراءة عند نقاط التلاقي ونقاط الاختلاف بينهما، رغم أن المقاربة والمقارنة جديرة بالبحث والاستقصاء والتحري، وقناعتنا بأن كل عصر يفرز شخصياته الانتهازية، و ( انتهازي ) الدكتور محمد عمر أفرزه عصر السادات، الذي اتخذ فيه الرئيس السادات أخطر قرارين، كان لهما آثارهما البالغ السوء على الشخصية المصرية، وهما :
1 – قرار الصلح مع العدو الصهيوني.
2 – قرار الانفتاح الاقتصادي المتعجل وغير المدروس، والذي قال عنه الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين انفتاح ( السداح مداح )، فلم تكن البلاد مستعدة ولا مهيأة ثقافيا وفكريا ونفسيا لهذا التحول، التحول مائة وثمانون درجة بين عشية وضحاها، من نظام اشتراكي إلى نظام رأسمالي، فأفرز هذا التحول طبقة جديدة وهي طبقة ( الطفيليين )، الطبقة التي تاجرت في المستورد والمغشوش والمضروب! وتم ضرب الصناعة الوطنية الناشئة، وظهر رجال نهب المال بدلا من رجال الأعمال، وتم تصفية مصانع وشركات القطاع العام وبيعها بتراب الفلوس، وتقلصت وضعفت وانحسرت الطبقة المتوسطة التي هي عماد أي مجتمع، وعادت الرأسمالية لتطل من جديد ولكن هذه المرة بوجه أكثر بشاعة وأكثر وحشية مما كانت عليه قبل ثورة يوليو، تلك الفترة التي أفرزت لنا ( محجوب عبدالدايم )، فالرواية صدرت عام 1945م، وتعكس فترة الثلاثينات، وهي فترة كانت تعاني فيها البلاد من ويلات الاحتلال الإنجليزي، وتفشي الفساد، ولكن الفساد في تلك الفترة التي أفرزت ( محجوب عبدالدايم ) لايقارن بالفساد في الفترة التي أفرزت ( عبده الوزير .. إزازة سابقا )، فالفساد نخر في كل عظام المجتمع، ويشغي في كل ركن من أركانه، فساد سياسي وفساد مالي وفساد تعليمي وفساد أخلاقي وجمالي... إلخ.
ظل ( محجوب عبدالدايم ) الذي قدمه محفوظ هو النموذج للانتهازي، حتى جاء الدكتور محمد عمر لينسف الصورة الذهنية للانتهازي عند المتلقي، والتي رسمها كاتبنا الأكبر، فشخصية ( عبده الوزير .. إزازة سابقا ) ضربت الصورة النمطية للانتهازي، كيف قدم كاتبنا انتهازي عصرنا؟.
فهو : ( ..كما عرفه زملاؤه في أول سنوات الدراسة شاردا، يهرف بكلمات عبثية، تحمل كل سمات الجهل، وفوضويا في تصرفات تعبر عن مستواه الاجتماعي والفكري المتدني، ومترنحا كأنه في حالة سكر دائم حتى لقبوه عبده إزازة بما انعكس عليه من طول معاشرة الأوغاد والأوباش من كل صنف )
هل هذه البداية تقود ( عبده إزازة ) وتهيأه ليكون أستاذا بالجامعة؟ ولا يقف الأمر به عند حدود العمل كأستاذ بل يتبوأ منصب الوزير وهو من المناصب الرفيعة، إنه الفساد العلمي والفساد السياسي الذي ضرب المجتمع كله.
أنظر إلى بداية القصة، والتي أستهلها الكاتب بالقلم، ومشهد القلم الذي صاغه لنا ببراعة شديدة وما يبوح به من إشارات ودلالات، فيقول :
( يطرق عبده بالقلم طرقاته المعتادة، ويلتفت التفاتة خاصة في كل مرة لطالب مختلف، فيفهم إشارته باتفاق مسبق، ويرسل له بالاجابات عبر إشارات تحمل شيفرة سرية بإجابات سريعة ومتقنة، تسمح بها أنظمة الاختبارات العبثية )
ومشهد الطرق بالقلم جعله الكاتب محورا مهما في حياة هذا الشاب الذي يسعى بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، للانسلاخ من طبقته الوضيعة، ولماذا اختار القلم رمز القداسة والعلم؟
في قراءة النص الأدبي، وخاصة القصة القصيرة، علمنا أستاذنا الراحل الدكتور حسين علي محمد بأن النص يُقرأ على ثلاثة مستويات :
أ - ما تحكيه القصة بدلالتها المباشرة.
ب - ما يستتر خلف الحكاية المباشرة وخلف شعرية اللغة.
ج - الأمثولة التي تريد أن تفصح عنها هذه الحكاية.
وهنا لخص لنا الكاتب باكتناز وتكثيف شديد عبثية مشهد التعليم في مصر، فالغش والفساد ونظام الامتحانات هي من أفرزت لنا هذه الشخصية الوصولية والنفعية والانتهازية، ومن ثم كانت الاشارة إلى القلم وخطورته.
ورحلة صعود ( عبده إزازة ) مرتبطه في كل مرحلة من مراحلها بالقلم وطرقاته به، فهذا ( العبده ) يعي بأن التعليم هو سبيل الوصول، والتعليم يعني الشهادة وبأعلى الدرجات، والشهادة والدرجات العالية لا تأتي دائما بالجد والاجتهاد في تحصيل العلم، ولكنها أحيانا تأتي بأساليب أخرى، يعرفها ويتقنها ويجيدها ( عبده إزازة )!.
( مع مرور السنوات يستمر طرق عبده وارتفاعه في الدرجات، ونجاحاته اللافتة تدهش كل من حوله، حتى أولئك الطلاب الذين استحوذ على إجاباتهم وإشاراتهم واصواتهم في انتخابات الاتحاد التي فاز بها بسهولة عبر سنواته الدراسية ).
وعن علاقته بأساتذته بالجامعة :
(.. يتولى لهم جمع الأموال من جيوب أولياء أمور الطلاب بمهارة وحذق ثمنا للكتب الدراسية والمذكرات والملخصات وأوراق الأسئلة السحرية والسرية ذوات الأختام الصكوكية )
ومن اسباب نجاحات ( عبده إزازة ) والتي ساهمت في تحولاته وانتفالاته وصعوده درجات السلم قفزا وبسهولة ويسر هو جمعه بين الأشياء المتباعدة والمتناقضة والمتنافرة أحيانا، فقد جمع بمهارة وفي مزج عجيب بين شخصيتي، حسن اللول والباشا لأحمد زكي، وقد عبر الفنان أحمد زكي في هذين الفيلمين وغيرهما عن عصرنا الذي اختلت فيه منظومة القيم، وعن عصر الانقتاح، فحسن اللول هو مهرب صغير من بورسعيد أول المدن التي شهدت الانفتاح، واعتمد على تهريب الساعات والسلع الصغيرة ومحاولته إقامة علاقات مع رجال الجمارك لتسهيل مهمته، ويلتقي بفاطيما التي تقيم مع والدها بالقاهرة والذي يعمل بتجارة المخدرات، ورغم الفوارق الطبقية والاجتماعية ينشأ الحب بينهما، وفي الباشا نجد أحمد زكي ( الضابط حازم ) يعجز كضابط مباحث عن تطبيق القانون بسبب نفوذ بعض صفوة القوم، وقدرتهم على ارتكاب الجرائم والإفلات من العقاب والمحاسبة، بسبب النفوذ والوساطة والمحسوبية، إنه صورة المجتمع الذي نشأ فيه ( عبده إزازة ) ويقدمه لنا الكاتب من خلال الدراما السينمائية والتلفزيونية، وهي نصوص موازية تكمل النص، ومن ضمن لبناته التي وضعها الكاتب في النص بإحكام، فيجب أن تُقرأ هذه النصوص الموازية والمكملة للنص بعناية شديدة، ومن المؤكد أن ( عبده إزازة ) قد أفاد من كل هذا، وربما كانت هذه الدراما وأيضا الشخصيات الفنية والرياضية هي التي ساهمت في تكوين ثقافته، وساعدت غلى إنماء شخصيته، فعاين الفساد في الجامعة والفساد خارجها، وخرج العالم والكاتب والأديب والفيلسوف من المتن إلى الهامش، وظهر في الواجهة لاعب الكرة والمطرب والممثل والراقصة، والمجد كل المجد لمن موهبته في قدمه أو حنجرته أو خصره، وانظر كيف أفاد من الشخصيات التي تم الحرص على أن تقديمها على أنها القدوة والمثل الأعلى :
( كان حفل تخرجه يوما فاصلا بإمتياز حين وقف وسط قاغة الاحتفال ماسكا بالميكروفون، خاطفا عيون المدعوين ومشاعرهم بطريقة جمعت بين مشهد محمود الخطيب التاريخي يوم اعتزاله وكلماته البسيطة الآسرة : ألف شكر .. ألف شكر، وكلمات أحمد زكي الوداعية التي دعا فيها الناس للصدق في المشاعر والايمان بالحب والعمل وقيمة الحياة )
ويبرز لنا الكاتب تأثر ( عبده الوزير .. إزازة سابقا ) بالفنانيين المبرزين، وكيف تأثر بأدائهم التمثيلي المبهر وبأصواتهم :
( تحول صوت عبده الأجش المتقطع الذي يحمل صوت علي الشريف ونبرات محمد رمضان إلى بحّة عبدالحليم حافظ في مرضه الأخير، وهمس ممدوح عبدالعليم تارة وخالد صالح في مرض الموت )
وبفضل هذا الآداء التمثيلي المبهر في حفل التخرج، نجح ( عبده إزازة ) في التأثير في الناس التي راحت تخلع عنه لقب ( عبده إزازة ) وتطلق عليه لقب ( عبده الوزير ) وهو استشراف قد تحقق بالفعل، مما يؤكد أن أدوات ومقاييس اختيار مناصب الوزراء وغيرها من المناصب قد تغيرت، وهي غالبا للغشاش والوصولي والفهلوي والانتهازي، وكأن الناس تتنبأ بمن سيكون وزيرا، بعد أن أصبحت المعايير للاختيار معروفة، والطريق إلى المنصب الرفيع مفروش للانتهازي بالورود!.
ويسعى عبده الوزير بعد تخرجه أن يكون واحدا من أساتذة الجامعة :
( لم يقف طموح عبده عند درجة الليسانس، فاستثمر علاقاته بأساتذته، وارتفع بدوره معهم، وتفنن فيه، ونماه مع السنين حتى صار الدكتور عبده )
وصار قاب قوسين أو أدنى من تولي منصب الوزير :
( ومع كل صعود صارت الوزارة تقترب منه لقدرته الفذة على إلقاء حصاهُ السحرية في أوقاتها المحسوبة بدقة متناهية وأماكنها التي عرفها بحساسية وخبرة وطول مراس باستمرار لتتسع دوائر الماء حوله، فغدا عبده الوزير وزيرا!!. )
أما رفقاء طريقه :
( وكتب له أولئك الفقراء من رفقاء الطريق الذين كتبوا رسالتيه وأبحاثه كتبا ومقالات تحمل توقيعه البارز المميز اللافت ).
إنه الفساد الذي لا يدانيه فساد، ويكشف عنه الكاتب من خلال شخصية ( عبده الوزير .. إزازة سابقا )
وكما بدأت القصة بالقلم في يد (عبده إزازة ) وهو ينقر بمؤخرة القلم نقرات متتالية ومتتابعة وهو في لجنة الامتحان، تنتهي القصة وهو في منصب الوزبر والقلم في يده وهو ينقر بمؤحرته أيضا نقرات متتابعة ومتتالية :
( أخذ عبده ينقر بالقلم على طرف الكرسي وهو ينظر نظرة حزينة وعميقة ومتقنة مستنكرا تلك الحملة الحاقدة المشككة في جدارته بالفوز في تلك الجائزة الكبرى المستحقة باقلام ماجورة تفسد عقول الشباب الوطني الطامح )
إذا كان القلم رمز القداسة والعلم في بداية القصة يدين من خلاله الكاتب نظام التعليم القائم على الغش والفساد والتدليس، وإذا كان التعليم تم تخريبه عمدا وتفريغه من محتواه، فإن الأخطر في نهاية القصة والقلم في يد ( عبده الوزير ) وطرقاته به على طرف المنضدة هذه المرة يشير إلى القضاء على قوة مصر الناعمة والمتمثلة في الفكر والفن والإبداع، فأن تذهب الجائزة الكبرى لهذا الدعي والوصولي والنفعي والانتهازي، فهي الطامة الكبرى، وهل هذا اللقاء الذي جمعه بتلك المذيعة اللامعة والمشهورة لتبييض وجهة، وهل تنجح قدراته وملكاته التمثيلية مع ضحكات ودموع المذيعة في اقناع الناس بعبقريته وأحقيته في الجائزة وأنه نالها عن جدارة واستحقاق.
هل بهذه القصة يكون الدكتور محمد عمر قد ألقى بحجر ضخم في ماء راكد وآسن؟، وهل يمكن أن تحرك الساكن وتثير الراكد؟ .. لقد جاءت مثل طلقة الرصاص وأصابت الهدف من أقرب زاوية، وأتمنى ألا تُقابل من نقادنا الأشاوس بالصمت، فهي جديرة بأن تثير الجدل والنقاش، فقد تماست مع هموم واقعنا، وأثارت هموم هذا الواقع وقضاياه، من خلال شخصية الانتهازي الذي أفرزه هذا العصر، والحيل الفنية التي لجأ إليها الكاتب تستحق من نقادنا التوقف عندها، وهذه قراءة أولى، وأرجو أن أعود إليها في وقت لاحق، والشكر كل الشكر للدكتور محمد عمر الذي أتاح لنا متعة قراءة هذا النص، ومنحنا شرف الكتابة عنه، وأرجو أن أكون عند حُسن الظن وعلى مستوى الثقة، ومن الله التوفيق.
مجدي جعفر
العاشر من رمضان في 4 / 7 / 2022م