الكلب الأسود الحقير.
ق.ق
م. نديم علي
حارتنا صامتة، مكتومة؛صيفا، بحرارة الأنفاس والطقس والعرق. وغائمة شتاءا ؛ببرد ووحل من جراء المطر الممزوج بقمامة متراكمة، وتسريبات الصرف الصحي التي لا تنتهي.
حارتنا ، ككل حاراتنا؛ مرتع لكلاب ضالة كثيرة؛ فعليك الحذر وأنت تجتاز طريقك إلى بيتك ليلا.
على طرفها ، مقهى شعبي، يعد المتنفس الوحيد ،للترفيه عن سكان المكان.
××××××
احتدم النقاش بين الطرفين،واشتدت حمى الجدال العقيم؛حتى وصل الأمر إلى التشابك بالأيدي. وانهمك الجمع في معركة طاحنة. طارت بها مقاعد المقهى وأكوابها في الهواء؛ إذ يرمي كل طرف غريمه بما تيسر منها، ليحدث به أشد الضرر.
××××××
كان صاحب المقهى يلطم خديه على ما أنفق فيها ؛وهي خاوية على كراسيها المحطمة ، وزجاجها المهشم ومراياها المتناثرة؛ وفناجينها المتطايرة.
×××××
وصلت سيارات لجهات أمنية،وسرعان ما أحاط الجند بالمكان .وحاصروا مداخل الشارع، ومنافذ الحارات. فسيطروا بسرعة وكفاءة على بؤرة المهزلة.
××××××
أفاق المتعاركون؛ وبدوا وكأنهم قد استيقظوا لتوهم من كابوس أصابهم وهم في سباتهم العميق. أو كأنهم صحوا من تأثير يد شيطانية ،أو مخدر جنوني.
×××××
جمعونا في سيارات ؛جعلت خصيصا لمكافحة أصحاب الشر، وأعمال الشغب.
كنت مذهولا ، بين المنحشرين في شاحنات فولاذية ضيقة ، وحراس مغطاة وجوههم بأقنعة حديدية.
××××××
انتبهت الآن فقط؛ حيث اكتشفت أن قبضة يدي اليمنى، ما زالت ممسكة بقوة بعلبة معدنية من عصير بارد مستورد ؛لم أكمل شربها من وقع المفاجأة باندلاع الحرب.
×××××
كان البعض ممزق الملابس،، والبعض مغطى وجهه بالدماء. والبعض ممسكا ذراعه من ألم ،أو مائلا على ساقه من عرج.
××××××
لاشك أن الطرفين قد أبلوا بلاء حسنا ، كل وفق اعتقاده الصلب، وإيمانه العميق ،وقناعاته الراسخة.
××××××
جمعونا صفا متهالكا أمام المحقق، بعد أن سلمنا هوياتنا.كثيرون منا لم يكونوا من حاملي بطاقات التعريف الرسمية. فصاروا إلى زاوية قريبة مخصصة لهم ؛غير بعيد عن طاولة المحقق.
×××××
- المسئول الشاب، الهاديء، المبتسم في سخرية: إيه اللي حصل؟
همت كل الأطراف بالتحدث في فم واحد؛ إثباتا بأن لهم الحق.
قام المخبرون بإسكاتهم بما يستحقون.
××××××
- أشار لي: إيه اللي حصل؟
- يا باشا : المسالة تافهة ؛ بدأت بحوار بين اثنين ؛أحدهما يحب الشتاء ،والآخر يحب الصيف.
- وانت مع مين فيهم؟
- أنا ... أنا ...
- ما ترد.. أنت مع من؟
- " فإذا بشيء ثقيل يصطدم بقفايا،
جعلت لساني يقفز من حلقي : فصرخت .. الصيف يا باشا ... أنا مع الصيف.
ليه بقى يا فهيم؟!!
- حرية ..يمكنك أن تمشي بملابس خفيفة ،وتطلع على شواطيء البحار، وتاكل وتشرب أشياء حلوة باردة.لا تحمل فوق أكتافك دولاب ملابسك. كما أنني خلقت فقيرا .. وكنت أكره برد الشتاء في طفولتي. إذ لم يكن بمقدوري توفير ملابس شتائية لتمنحني الدفء لجسدي النحيل.كما أنني أشعر بالاكتئاب في جو الشتاء الغائم.
××××××
ووجه سؤاله للرجل بجانبي وقد بدا خيط من الدماء قد جف تحت انفه؛وأنت مع مين ؟
- : اعترف الرجل بلا تردد ؛مما أغاظني وأثار حفيظتي: الشتاء يا باشا، الشتاء.
- وما هي أسبابك؟
يا باشا الصيف حرارة وعرق .. الشتاء دفء، ومشروبات ساخنة. وملابس أنيقة. ومطر مثير يمكننا أن نركض تحته في مواقف رومانسية جميلة. وجو بلا شمس حارقة ولا عرق يتصبب منك ويغرق ملابسك وتشعر كأنك سمكة في كيس بلاستيكي مملوء بالماء . ولا يمكنك الخروج من جلدك
××××××
كانت اعترافات خصمي الغبي تغيظني. وكدت أن أمسك بخناقه. وهممت بأن أقتله أمام المحقق؛ وهو يعدد مساويء فصل الصيف الجميل.
××××××
وأنتم ، موجها حديثه للباقين، مع مين فيهم؟
- يا باشا نحن لا علاقة لنا بهذين المعتوهين. نحن أنصار فريقين لكرة القدم ؛ الأبيض والأحمر. كنا نتابع مباراة نهائية بينهما على شاشات المقهى.إلى أن جاء الهدف الأول لفريقنا الأحمر، ثم ما هي الا دقائق حتى قام الحكم باحتساب ركلة جزاء للفريق الأبيض...
تعالت أصوات المشجعين المختلفين وتداخلت ،على صحة الهدف الاول ، وعدالة ضربة الجزاء المشكوك فيها؛ وتصايحوا حول كفاءة الحكم وعدم نزاهته.
إلا أن المحقق صرخ فيهم .. فقام المخبرون بإسكاتهم بما يستحقون.
×××××
أفرج عنا بضمان محل إقاماتنا. ذلك ما علمته وأنا أرى نفسي على رصيف الشارع، لنركب شاحنات رسمية إلى جهة ما. بعد أن وقعنا جميعا على تعهد بألا نجادل في مثل تلك الأمور ،وألا ننشر الفتنة بين الجماهير.وعلمنا بصدور أمر توصية بتسليمنا لمستشفى الأمراض النفسية والعصبية ؛ الكائن في الطرف الهاديء من المدينة.
×××××××
لا أدري أنا أيضا؛ كيف بدأ الحوار بيني وبين غريمي في المقهى. فلست من هواة كرة القدم. إذ انزويت أنا نصير الصيف؛ إلى طاولة جانبية لأحتسي بشغف شيئا (باردا) ؛في يوم بدا لي حارا، تماما إلى جوار ذلك الغريم الذي يتعصب لبرد الشتاء؛ وراح يستدفيء في سعادة،بكوب من السحلب (الحار) بين كفيه.
××××××
حين قادتني ساقاي المتهالكتان إلى حارتنا الصامتة؛ بعد فترة لا بأس بها من الاستجمام بمركز الرعاية النفسية والعصبية ،رأيت بأم عيني رهطا من الكلاب البيض ، يركض بوحشية للفتك بكلب أسود ، نحيل،حقير .
.