.
كنت أتجول بين حقول بلادي ،ونخيلها والبساط الأخضر ممتد لمسافات ، خامره نسيم غض ، صحى لتوه من غفوة الضباب البريء،كنت أشعر بأن نافذة في طرف وجداني قد فتحت مصراعيها على ذكريات طفولة مررت بها هنا ، بين سماء زرقاء وطير تراوح بين الشجيرات وحافة النهر الصغير ، وكتاب تاريخ أدرسه بحب جارف ، كان نافذة أخرى لي أطل بها إلى مستقبلي الغرير. والشغب الطفولي يشدني نحو شجرة التوت أرنو إلى سكرها وألوانها التي تطبع ملابسي النظيفة، كنت أنهي درسي بدقة ، كي تكون شجرة التوت هي الجائزة .
كانت جماعات الفلاحين ، بمواشيها وصبيانها وصباياها، تلقي على السلام ( كيف أنت يا أفندي يا صغير ؟ شد حيلك وانجح ، وسنحصل على الحلاوة من الشيخ علي ).
رائحة تراب الحقول الخضراء، التي رويت لتوها،ذلك العبق الحميم إلى صدري يملأني فخرا وإقداما . تلملم الشمس عيالها لتعود لتشرق في مكان آخر رحيب ، وأعود معها إلى بيتنا ، حافظا لدروسي بدقة متناهية . لأجد أمي هناك على طرف أريكتها ، تعيد رتق الجوارب ، وما أفسدته عملية الغسيل ، من زر سقط هنا أوجيب تفتق هناك .
ترمقني بنظرة معاتبة : لونت ، بشقاوتك المعهودة ، ملابسك بألوان التوت مرة أخرى؟ !!!! أحاول مشاغلتها عن جريمتي بأن أردد بنود ما درست، لأثبت لها أنني لم أكن ألهو ، تبتسم بود وتبدل لي قميصي النظيف المغموس في حلاوة التوت ، وتعد لي ( المكرونة التي أعشقها ).
عدت من وعثاء غربة طالت؛ بحفنة من نقد أجنبي ،وشيب يكسو رأسي، وذكريات مؤلمة.
عيون الفلاحين المارين الآن بجواري منكسرة ذابلة ، وخطاهم مبعثرة على جوانب الطريق الترابي المتعرج ، وامتداد الحقول تقلص ، بين ناطحات سحاب أسمنتية قاسية الملامح، أشق طريقي بصعوبة بين سيقان أسمنتية عملاقة، وصخب أغنيات فجة . وغصة تسد حلقي٫ ودمعات حبيسات تطل من شرفات عيوني.
.أعود إلى بيتنا ، حيث أبي قد غاب، في غيابي ، بلا عودة ، وأمي يلازمها ألم المفاصل ، ووجع العمود الفقري. أحاول أن أتذكر بنود درس التاريخ وصوره الباهتة .وقميصي الفاخر المستورد ، ليس عليه أثر لألوان التوت ، ولا حلاوته في وجداني العجوز، أشمر عن ساعدي الواهن لأعد لأمي وجبة العشاء،أشاحت بيدها ،فلم تجد في نفسها رغبة في طعام ، تناولت دواءها بعد تمنعها المعتاد ، ودعت لي دعوة حارة ، ثم غطت في سبات عميق.
.