قصة قصيرة في 28-08-2005
عجلة الطائرة
كانت يداه ترتجفان وهو يشد على مصعد الطائرة , تتداخل في جوفه الهواجس ,هاهو قاب قوسين أو أذني كيما يحط أقدامه على تراب وطنه , يصفعه الغياب الطويل الذي أفن فيه العمر في ديار الغربة , أيعقل أن يعود إلى هذا البلد بعدما لاقى الويل فيه ! , ليس من الذين لا يعرفونه فقط ولكن حتى من أقرب الناس إليه , والده , جيرانه ,أصدقاءه , الكل كان يتشاءم من خليقته , لم يكن يحمل شكلا مقبولا, و لا وجها متناسقا , وجهه غير محدد الملامح يميل للقبح أكثر من أن يميل لشيء أخر, ربما لهذا راح الجميع يتشاءم منه
هو يذكر تلك الكلمات الجارحة , التي كان والده يرميه بها كلما بد ر منه شيء , بقصد أو بغيره , كل الأشياء المعيبة أو الكارثية التي تحل بأسرته , يحصل أن يوجه له الجميع أصابع الاتهام فيها , كأنما هو مصدر كل الشر
- وجه الشر هذا الولد قالها الأب وهو يرد على جاره حينما جاءه يشتكي من الحجارة التي كان أطفال الحي
يرمونه بها في فترات قيلولته , لا أعرف مادا فعلت لربي ؟
حتى يكافئني الله بمثل هذا الولد الشيطان , أتعرف لولا مخافة الله وكلام الناس لكنت تخلصت منه , بردمه في التراب عند مولده مباشرة , بسبه فقد زوجتي , حتى الأطباء أكدوا لي ذلك , قالوا لولا رأسه الغليظ
وكدا التواءه على الحبل السري لنجت أمه و حتى بقاءه في بطن أمه أيضا , لم يكن طبيعيا كما كل البشر, فقد بقي تسعة أشهر وتسعة أيام
مما سبب نزيفا حادا لأمه فماتت ونجى هو ,لا أعرف لمادا نجى ؟!... وماتت هي , من يومها وأنا أعاني معه, حتى الحليب الذي كنت أشتريه له رغم غلائه إلا أنه كان يرفض رضاعتة , لولا جارتي العجوز التي أشارة علينا بأن نرضعه خليط من الماء و القطران لما كان يكف عن الصراخ
,يذكر تلك الكلمات , فيزداد جرحه اتساعا وتنغلق بين ناظريه حبات الضوء وفتحات الهواء , فينتابه الحزن الملبد , لاشيء يشتهيه في هذا الوطن , هذا الحدود الجغرافي الذي طالما عاداه وعذبه , لم يشعر بنعمة الحرية
ولا حتى الإنسانية , إلى أن كبر وجاءت سنوات الحرب الأهلية التي تطاحن فيه الجميع , كان وحده الاستثناء , لم يؤيد ولم يستنكر , لم تكن الحرب حربه , ولم يفقه حتى أدنى سبب لقيامها , لأنه كان رجلا منعزلا , مرفوضا يتطير منه كل من يراه
لكنه رغم ذلك كان متهما من الجميع , الكل يرى أنه هو العدو الذي يجب التخلص منه , يذكر تلك الليلة الباردة من أيام يناير عندما جاءته الشرطة ومعها كلاب الشم تلاحق هاربا قام بعملية تفجير لسوق الأسبوعية, مما أدى إلى سقوط كثير من الضحايا والجرحى , فراحت الشرطة بمساعدة كلابها المدربة في اقتفاء الأثر تبحث , في كل بيوت المدينة , فما كان من الكلاب إلا أن خلصت في شمها عند باب بيته , فهاجمت الشرطة بيته دون تردد مما أدى إلى مقتل أخيه , وإحراق البيت عن أخره واقتيد هو إلى السجن دون أن يعرف شيئا , لم يخطر على خلده وهو يجر منكبا على وجهه مقيدا بأغلال المجرمين أنه سوف يتهم يوما بشيء لم يسمع به حتى !
أبوه ارتاب في كل شيء , حدثته نفسه أن ابنه من الممكن أن يفعلها , مما جعله يصاب بالبكم والذهول , بعدها بسنوات تمكن من الهرب , حتى الهرب لم يكن من مدبريه , بل وجد نفسه مدفوعا إليه بحكم تواجده مع بعض السجناء السياسيين في زنزانة واحده , وحينما دبروا خطة للفرار أخذوه معهم ضنا منهم أنه رجل مهم , فساعدوه على الهروب إلى الخارج , حيث تمكن من أن يحوز على حق اللجوء السياسي , و أن تظمن له الدولة المضيفة راتبا شهريا ومسكنا لائقا, يقيه قر العوز , ليكون إنسانا ولو مرة واحدة على الأقل في حياته , ما أروع أن تشعر بآدميتك بين الجميع !
, لم يعد أحدا يدير وجهه عنه
الكل في تلك البلاد المضيئة مشغول بهمه , لا تطير ولا التفات إلى العدم , في غضون الستة عشرة عام التي قضاها في الغربة , جعلت منه إنسانا مهما , تعلم الكتابه , وقرء الكثير , تعلم كيف يصنع من عزلته الحرية و
الانعتاق , و من وحشة الجسد و القبح الذي دمر فيه كل شيء جمالا يدفعه لتعلق بالحياة , هو اللحظة يتنفس ملء منخريه تنتابه فرحة السد يم, مدللا بأشواق الرجوع
يدفع قدميه على رصيف المطار بنشوة عارمة , تتصاعد في مخيلته الأسئلة , أيعقل أن يفعلها هو دونما ا
ا الأخريين ! وفي الوقت الذي يفكر فيه أن يعود إلى وطنه !
إلى أبيه الذي ما فرح يوما به ولا تباه به كما يتباه الآباء بأبنائهم , ولا حتى عده إنسان يستحق الرحمة , لابد أن والده شاخ اليوم , لقد تتبع أخباره وعرفها دون أن يفكر في مراسلته , لم يكن يعنيه أكثر من أن يطمئن على حاله , كان يسأل كثيرا ويكرر طرح أسئلته
على أولئك التجار المغامرين الذين يحترفون تجارة الشنطة , فقد تعرف على بعضهم في منفاه , تزود بكثير من الأخبار السارة عن أبيه , فعلم أنه تزوج من فتاة تصغره بعض الشيء وأنجب منها طفلين
جميلين ,وأصبح يعمل في الحقول المجاورة للمطار , كل هذه المعلومات أسرته ,جعلته مغتبطا مما جعله يقدم
دون تردد على قرار العودة كيما يتصالح مع الجميع , وفي مقدمتهم والده , تتدافع في مخيلته اللحظة النشوة
- لابد أن والدي سيكون فخورا بي , ولما لا وأنا اليوم إنسان مهم بكل ما تعنيه الكلمة , كما أنني اليوم فعلتها وجازفت بحياتي لأنقد الجميع , والا كانت الكارثة فضيعة يلاشك , حينما أعلنت المضيفة عن العطب الذي أوقف إحدى عجلات الطائرة مما جعلها تفشل في محاولة الهبوط , فاعتلى الركاب الذعر و بدأت النسوة في الصراخ وعمت الفوضى , ولم يعد غير الذعر و الخوف سبيلان لإعلان الكارثة التي شعر بها كل راكب, لولا تدخل قائد الطائرة بوقاره ورزانته , رجل في نهايات
الكهولة ,لكنه ذا بنية قوية بدت من خلال وقفته ونظراته الثابته , ووجهه الناصع المائل للحمرة , ثبت ناظريه في الجميع و كأنه ملك يحوز على ملك جديد , الأنظار مصوبة إليه ترتقب أول كلمة تنسل من حلقه , ليحكموا على مقدرته في الحكم, رفع يديه ثم أنزلهما بهدوء تام دافعا الجميع كي يهدءوا من روعهم ,
- أرجوا أيها السادة أن تهدؤوا , نحن نعاني مشكلة تقنية , لكننا من الممكن أن نسيطر عليها لأن الوقت في صالحنا , فالوقود يكفينا لأكثر من ثلاثة ساعات كيما نحلق في الجو , لهذا أرجو من الجميع مساعدتنا بالهدوء حتى نتمكن من السيطرة على الموقف , فلكل مشكلة حل , ومشكلتنا هي العجلة اليسري
فقد تعطل جهاز تحكمها , وأصبح اخارجها مجازفة كبرى , لهذا علينا بفكها نهائيا من خلال نزع مصورتها
وترك العجلة تتحرر نهائيا حتى يعود جهاز التحكم للاشتغال , وبالتالي نستطيع السيطرة على العجلتين الباقيتين
اللتين ستمكناننا من الهبوط.. والآن يا سادة , يلزمنا متطوع من الركاب كي يقوم بتحرير العجلة العالقة..
قالها القائد مرتين , ثم أعادها لكن الجميع تسمروا وكأنما الحديث لا يعنيهم , الكل بدا خائفا يترقب , من الذي
يتشجع ويقوم بهذه المجازفة الكبرى.؟ تساءل كل واحد في سره
ماكان له إلا أن رفع رأسه , و هو يعرف أنه لم يفعل في حياته قط شيئا ذا قيمة , يمكن أن يستحق عليه احترام الناس , يردد في داخله لم أفعل ما يوجب على الناس احترامي به, لكنني لم أفعل ما يضرهم أيضا , ولست سيئا ولا طيبا , ولم تتح لي يوما حتى فرصة عمل الأشياء النافعة , ....لكن الفرصة هاهي اليوم أمامك , اغتنمها وقل للجميع أنك هنا , ردد صداها عمقه , برغم قبحك الجسدي وحظك العفر
, وقف دونما تردد , وراح متوجها لقائد الطائرة الذي صافحه , ثم أخد ه إلى الرواق القريب من قمرة القيادة وراح يفتح له فتحة تؤدي إلى جهة الشحن ,وضح له الأمور التي ينبغي أن يحرص على تذكرها
أثناء تحرير العجله , دعا الجميع له بالتوفيق , وماهي إلا ساعة من زمن وعراك مع الريح , حتى استطاع أن يفعلها و يحرر الدراجة من مكانها , ليتركها لسقوط
ليعود بعد ذلك إلى داخل الطائرة ملوحا بالزهو والفرح , صفق له الجميع وهللوا ,ناعتينه بالبطل , من لحظتها وهو يشعر بالانتصار ,
هاهو اللحظة يشير إلى سيارة تاكسي كي تتوقف لتقله إلى بيت والده الذي يجاور الحقول التي تحاصر جانبا كبيرا من المطار , السيارة تلعق الطريق بسرعة فائقة وهو سارح في المفاجئة التي سيوقع والده فيها , ستة عشرة سنة ووالده لا يعرف عنه شيء , أهو حي أم ميت ؟, أخباره منقطعة عن كل الذين عرفوه قبل هروبه من السجن , ومن وطنه , حاول أن يكلم السائق ثم أقفل متراجعا , فكره سارح في تخيل ما يصنعه حضوره اليوم ,
- سأعوض والدي عن كل شيء وحتى زوجته الجديدة وأبنائها , سأكون لهم السند.. , بينما هو كذلك وإذا به يشعروا بتباطىء السيارة ومحاولات السائق للفرملة المتكررة متجها في كل مرة جهة اليمين
- لماذا تبطىء من سرعتك , أهناك شيء ؟!
- نعم سيدي انه موكب جنائزي يقترب منا
- إنا لله وان إليه لراجعون , توقف حتى يمر الموكب ثم نتابع طريقنا
توقفت سيارة التاكسي جانبا من الطريق فاسحة للموكب الجنائزي كي يمر , ثم تابعوا الطريق إلا أن وصلت بهم السيارة إلى البيت المقصود , لاشيء غير الصمت وبقايا الغبار الذي يحاول الترسب في الأرض , قبل أن ينقد السائق أجرته
حاول التطلع إلى المكان , بدأ يبحث عن ورقة العنوان ليتحقق من أنه البيت الذي يقصده , تفحصها جيدا , العنوان هو بالتأكيد , حقول المطار!, البيت رقم تسعة!
دنا من الباب , بدا له كل شيء ساكن , صامت وكأنما أهله أخذتهم الراجفة
دق مرة ثم مرتين ,ثلاثة , لا أحد!, لا أحد! , بدأ ينادي بأعلى صوته عن والده , لاشيء لا أحد يسمعني , انتابه التوتر حاول أن يدور في مكانه , أصابه الاندهاش , أيعقل أن يكونوا قد رحلوا...أيعقل !
,بينما هو في تلك الحالة وإذا بصوت عجوز مسنة ملبدة الوجه شعرها يميل إلى البياض القميء رافعة عقيرتها بعدما أطلت عليه من نافدة البيت المقابل
- ماذا تريد أيها السيد ؟, لا أحد في تلك الدار , لماذا تنادي بأعلى صوتك ألا تعرف أن الجميع ذهبوا مع موكب الجنازة
رفع رأسه ناحيتها, - ماذا تقولين يا سيدتي , عن أي جنازة تتكلمين؟!
- أي جنازة , ألست من المعزين !!
- اسمحي لي أنا لا أعلم عن التعزية شيء , جئت أسأل عن صاحب هذه الدار, أتعرفينه
- ماذا يقول هذا الأبله , اسمع أيها الرجل صاحب الدار التي تتكلم عنها مات صباح اليوم
- ماذا قلتي مات اليوم! , كيف ؟, ...كيف؟!
- نعم يا هذا , لقد سقطت عليه صباح اليوم عجلة طائرة وهو في الحقل فمات في حينه
- مات والدي ...سقطت عليه عجلة طائرة...وأنا من .... !!... لا لا لا , لايمكن أن تكون العجلة نفسها التي
- حررتها بيدي , لايمكن أن أكون متسببا فى موته .. لايمكن !..., سقط على ركبتيه مذهولا , وجهه في التراب صائحا كأنما خرم قلبه وسملت عيناه بالنار , في الوقت الذي كان فيه سائق التاكسي يرفع في حدة بوقه كيما ينبهه للأجرة.......
شكرا : كاتب هذا الجسد من الكلمات عبد القادر ضيف الله يتمنى أن يكون في مستواكم