المقعد الأول.
م.. نديم.
حينما تحمل على ظهرك تواريخ علماء الدنيا وشيوخها وحكامها ، وطنيين وخونة. مماليك وحرافيش، سادة وعبيد. وتروح وتجيء بحقيبتك الثقيلة بين مدرسة ومنزل.فأنت تلميذ مذعور في عالم غبي، لا تحمل في جعبتك شيئا ذا معنى، حتى لو جلست أمام معلمك في غرفتك الدراسية في المقعد الأول.
&&&.
هنا يعلمونك ألا تكون نفسك، وهناك يجبرونك على أن تكون غيرك.فأنت عبارة عن إسفنجة طاهرة ،لتقبل كل الوساخات من لوم وتقريع وتخويف وتعذيب من الطرفين.
وعليك فقط أن تتناول مع يطرح أمامك من طعام حتى ولو لم تستسيغه نفسك، ولم تقبله شهيتك.
وما أن تنتهي من ازدراد ما ألقي إليك، يروح الأب والأم في سباتهم العميق، مرتاحي البال، ولم لا؟ فقد تم المراد ،وملئت بطون العيال، فلن يجأروا بشكوى الجوع.
@@@
أن ترتدي ما يطرح عليك من ثياب، هم اختاروها لك ؛بألوانها وقياساتها وأنماطها.
هذا ما عندنا لك وعليك الحمد والامتنان. واختر لنفسك إن كبرت ما شئت من مرادها.
@#@
عليك بالصمت والإنصات في حضورالكبار، وإلا اتهمت بقلة الأدب ، وعليك أن توافقهم على غثاء آرائهم وإلا رموك بهتانا بالوقاحة.
@@@
تراهم يوقعون أنفسهم في حبائل من غباء أفكارهم العتيقة، ويهزأون من عقول طازجة مفعمة بالحياة، ربما منحها الله شيئا من بهجة الشباب وسطوع أمله ، واندفاع توجهه.
@@@
وكم أمسكوا بك متلبسا باللعب مع أحبائك الصغار فوق العشب الندي،فأعادوك إلى جحرك في البيت ،كي تنام مبكرا، وسط الأرانب ،لتصحوا مفزوعا قبل موعد المدرسة بساعات ، يخامرك فيها النوم ويقف فوق أكتافك ،ويثقل جفونك ،ويتعلق بكاهلك.
هل يريدون لك أن تكتم بهجة طفولتك ؟ هل يقصدون أن ترتدي مسوح الرهبان، وكآبة العجائز.ولا يمنحونك فرصة أن تتذوق جديد الثمار ، ولا أن تحيا كرنفال دهشتك؟
لا .. ربما كانوا يدفعونك بتلك الطرق الجائرة إلى التلوث. لكن كم من المرات التي سمعتهم فيها وهم يمدحون ذلك التلميذ، الذي صورته صحف الصباح ، لأنه حاز المركز الأول.
@@@
وكم كتمت شهقات بكائك ليلا بين وسائدك، انتظارا للمسة حب ، أو ربتة حنان، أو همسة اهتمام ، أو بسمة امتنان، دون جدوى.
وكأننا نحن العيال، قد صرنا واجبا ثقيلا يدمي قلوبهم ، وأكياسا يملأون فراغها بأي علف ، وكأن ذلك هو كل دورهم.
أكان لذلك الشعور بالإهمال، أثره السلبي عليك، فكنت طفلا مبدعا في تعذيب الجراء و صغار القطط ؟!
@@@
وإن شكوت تأخر فهمك لدرس ما، صدرت أوامرهم بتعذيبك لغبائك المفرط.فلا حق لك في حوار أو تساؤل يصفع باب عقلك، ولا إذن لك باستفسار يقلق نومك.
أنت مأمور أن تجلس في محيط دائرة حددوها في المكان، رأسا بين رؤوس، ووجها بين وجوه،ليقف أمامكم وجه مشبع بالسخط موسوم بالغضب، يدعى معلما.
يصب عليكم أنتم الصغار من فنون أحقاده، وشآبيب سواد قلبه، فيستخدم العلم أداة لعقاب لا ينقطع. في زخم اتهامات للصغار بالغباء. وكأنه يداري غباءه هو .. وعجزه عن الفهم .وإن هممت بشكوى لولي أمرك، انبرى الأخير وفضحك أمام من تشكوه ، وأخلى ظهرك ،وطالبه بمزيد من جرعة العقاب؛ فقد أسلمك له لحما، ولا يريد منهم إلا أن يسلموك له عظما.
أنسيت تلك الحصة الدراسية، وقد استدعوا ولي أمرك، لإهمالك في عمل واجبة المدرسي في البيت؟
هذه أذنك، التي التوت قليلا عما كانت عليه منذ ولادتك.لقد مر عليها العديد من الأصابع الخشنة القاسية، لتشبعها فركا وشدا وعركا !
يومها شكوت قصر بصرك الذي لم ينتبه له أحد، وتسسب في صعوبة رؤية المسائل بوضوح فوق لوحة الطباشير؟
يومها تذكر جيدا أن الاختصاصي الاجتماعي ، قد أوصى بأن من حقك الجلوس في المقعد الأول.
كثيرة هي أيام الاستدعاء ، واللوم والتقريع.
لا أظنك قد نسيت يوم أن أمسكوا بك هاربا متلبسا بقراءة الكتب غير المدرسية بمكتبة المدينة، فأوسعوك سخرية ،وشتما وتقريعا وضربا، وكم من الصفعات قد استقبلها قفاك النحيل!
ولم ترغير معلم واحد لمحت في عينيه اعتراضا خفيا، وصمتا حزينا.وتعاطفا أبويا طالما افتقدته.
ولعلك ما زلت تذكر رواية "بريء في الأغلال" لعلي أحمد باكثير، وجلستك بين دفتي الكتاب ودموعك تنهمر لتبلل صفحاته، حزنا على ذلك البريء!
###
عليك الآن بعد تناولك فتات ما يلقى إليك أن
تؤدي واجبك المدرسي في صمت ،وتكون مؤدبا مطيعا ،كقطعة عجين في يد متسخة لخباز أعور. يعجنوك في دولابهم الأعرج ، ويخبزونك في تنور حياتهم المشتعل بالنفاق، ليخرحوك شيئا يتفاخرون بصفاته المزيفة ،التي فرضوها على ملامح وجهك المذعور. يا صغيري وأنت بين نقطتين ، في طريقك على اتساع المدى :تراوح بين المدرسة، والبيت, هنالك المكتبة ، فعليك الآن أن تجد مفاتيح عالمك السحري المثير.
وعلى صدر كراساتك العذراوات ، خط بألوانك مستقبلك ،ولا تهتم لو سخروا من رسمك، ولا تيأس فخليهم في قيعان تخلفهم ،وطر أنت مع العصافير والفراشات الملونة والعشب الفواح، والعب بين أشجار وصبايا جميلات ونخيل . هناك في عالمك المملوك لك وحدك شرعا وحلما. ستكون أنت، أنت كما تريده لنفسك.ولاعزاء للمتخرجين من تلك الاسطبلات الملونة بالجهل.
) لا تخش جوعا،فلتلق بشطائر أمك التي جفت في إلى ركن على رصيف الشارع، واشتر بقرش رجوعك في حافلة المدينة ، ما تشتهيه نفسك من حلوى.)
@@@
مكفهر الوجه، قلقا كنت دائما. فلا عجب إن رأيت وجوه التلاميذ في مدارسنا الحكومية، مكفهرة دامعة الأعين وكأنهم يساقون إلى الأعمال الشاقة أو السجون.
#######
كانت تلك الصور الهادرة بالمشاعر والشجون ، تهزه و تقض مضاجعه منذ طفولته وصباه، تقفز من قاع بئر مظلم في عمق ضميره، لتتراقص أمام عينيه الآن، وتكاد أن تفجرهما بغضب لا يدري كيف يعبر عنه.
ودموع لا يثق في قدرته على منعها من الانهمار.
غير أن وقارالقاضي ، ذي الشعر الأشيب، كان يمسك عليه انفلات نفسه بالنطق بما لا يليق بالمقام، أو يتعارض والضمير، أو يخالف القانون
######
لكنه في حيثيات حكمه سطر روح مشاعره المنهمرة كطلقات رصاص، مصدرها التاريخ والضمير والشرع والقانون، يصور به حال أولئك البشر من أولياء أمور وآباء ومعلمين، أولئك الذين لم يحققوا من واجبهم إزاء الضعفاء من ذرياتهم، وصغار تلاميذهم سوى النذر اليسير.
@@@
فمنهم الكثيرون الذين لم يسعوا للاقتران والزواج سوى لتحقيق نزوات جسد مشتعلة، وشهوات نفس ملتهبة.فلا قدموا لهم أمنا ولا سلاما، ولم يوفروا لهم قوتا ولا نصحا ،ولا هداية.
وربما استخدموهم أداة للتفاخر، وأدوات ودمى يحققوا بها ما عجزواهم كآباء عن تحقيقه.
لا يريدون من أقدس علاقة بين الرجل والمرأة، سوى لحظات الشبق والمتعة الزائلة،غافلين عن ذرية ينجبونها
فلا يعبأون بها، وقد يخربون أخلاقهم ، ويدمرون نفسياتهم ، بتدليل زائد أو قسوة مفرطة.
مساكين ،أولئك الذين تفتحت عيونهم في سن الطفولة،ليجدوا أنفسهم في حياة ليس لهم يد في القدوم إليها, بين أياد قد
تؤرق حاضرههم ،وتبدد أحلامهم. أولئك الصغار، بكل قوانين العالم ،يستحقون آباءا أفضل.
&&& .
النفس فيها الكثير. لكن حين أفاض العلم على العقل المزيد من الضوء، ندرك أن كثيرا من حنقنا وغضبنا على من ربونا كان قاصرا ، بل وقاسيا، بحكم حساسية الطفولة، ونزق الصبا، وتمرد المراهقة.
@@@@
كان عليه أن يخفف من حنقه، فهناك الكثيرون ممن يملكون الصدق والأمانة ويقظة الضمير، رغم مرارة الفقر، وذل الحاجة.
### .
حين تعمق في أوراق القضية، وواجه الآباء والأمهات المكلومين.
وجد منهم من يحمل شذى من سبقونا من المخلصين من الآباء والأجداد.
تذكر وجه أبيه وأمه.
(تعودنا أن نلتئم علي طاولة الطعام أبناء وآباء..في مواعيد محددة .. ثلاث مرات في اليوم.... لم يكن لنا أن نخالفها أبدا بغير ظرف قاهر.
في تلك اللحظات.. كنا نصغي للحكايات... أو نعرض مشكلاتنا.. أو ندلي بآرائنا.. التي
( كالعادة ) لم تكن تروق للكبار... ولكن كان علينا أن نجادل عن ما نؤمن به بأدب وحذر.
ورغم ذاك أدركنا كم كانت تلك اللحظات مدرسة حياة ومصدر قيم تعلمنا فيها الكثير.
لحظات ... لا يقدر قيمتها إلا من افتقدها الآن في زمن التفكك الأسري و الاجتماعي... والانهيار الخلقي.
(رحم الله أبي وأمي.
أب يناضل طوال نهاره ليأتي بما نحب ونحتاج في أول الليل. وأم تقضي وقتها تدور بين طحن وعجن وخبز وطبخ وغسل وتنظيف، وسهر على سرير مريض منا..)
(وهل ينسى واقعة وعده لصاحبه المعسر بأن يقرضه بعضا من مصروفه اليومي. ولما أن جاء الصديق لبيته ودق الباب، أوعز صاحبنا لأخته الصغيرة بأن تخبره بأن 'أخي ليس هنا،" وغادر الصديق . لكن أباه لم يترك اللحظة كي تغادر، دون أن يتحفه بدرس العمر؛
)“ لقد ارتكبت ثلاث خطايا : أخلفت وعدا ، وكذبت، وأغويت طفلة أن تكذب مثلك.)
لا تقطع وعدا، دون أن تملك القدرة على الوفاء به ،ولا تكذب ،ولا تحرض من هو أضعف منك على شر.")
###
حين قابل كافة المعلمين على طاولة الاستحواب، بوصفه قاض للتحقيق في تلك الحادثة التي راح ضحيتها أولئك الأبرياء،رأى فيهم من ما زال يحتكم إلى صوت الضمير، ويحمل هموم أمانة يدرك خطورتها.
وكأنه قد عاد به الزمن إلى عقود مضيئة ماضية.
(لقد عدت بعمري إلى زمان معلمين عظام، فما زال الأفق يعبق بشذى الياسمين. وما زالت الأغصان تحمل براعم لمواسم من الخير البشري عميم.إذ قفزت إلى عيني ذكرى أولئك المخلصين.
كانت الروابط بين معلم وتلميذ، علاقة احتياج ضعيف متلهف بأدب لقوي مانح بلا من، يحدوها حب و رعاية ورقابة حانية ،ونصح رفيق.علاقة تتيح الفرصة للصغار كي تتربى وتنموعندهم جذور الضمير.
(لا أنسى يوم أن
غضبت مني معلمتي واتهمتني بالأنانية وعدم التعاون، حين أمرتني نفسي أن أمنع زميل الفصل من اقتراض أصابع ألوان شمعية من علبتي في حصة الرسم.... وعزلتني نفسيا... حاولت أن أشرح وجهة نظري... فلم تسمع لي... رغم أنه كان مشاغبا، ولا يجيد الرسم،وكان يأكل أصابع الشمع الملونة!!!
إلا أنها قرصت أذني برفق، منبهة إياي بأنه زميلي ،ومن واجبي أن أساعده ولا أحرجه).
###
واستمر انهمار كلماته كالطلقات في سطور الحيثيات:
في هذا الزمان، ليس أولئك المهملين بمعلمين، فما ارتقت أنفسهم لمرتبة تلك المهنة المقدسة، فكثير منهم يجهل نبل مهنته وسموها، ولا هم حققوا من واجبات ممارستها مقابل حصولهم على راتب منها.
وكيف للمجتمع أن يأمن بعد الآن على صغاره، وهم بعيدون: في مدارسهم، بين أياد غير أمينة؟! أو حتى بين ظهراني أولياء أمورهم الذين أنجبوهم ؟!
تلك النفس الصغيرة المهملة، قد ينفجر منها شر مستطير، إذ يمكن لأولئك الملائكة أن ينقلبوا إلى شياطين، دونهم البالغين في شرورهم. فينسحبون هم ومن ربوهم إلى المقاعد الأخيرة من التاريخ الإنساني، تاركين، من يستحق أن يحوذ المقعد الأول.
###
كان تلاميذ المدرسة الابتدائية
يقفون مذهولين ،صامتين، في طابور ذلك الصباح الحزين، مع إعادة فتح أبواب تلك المدرسة ، بعد إغلاقها لأسبوع ،بعد ذلك الحادث الأليم.
&&&
ففي بداية الأسبوع الفائت ، كانت معركة الصراع على مقاعد صفوف المقدمة بالغرف الدراسية في اليوم الدراسي الأول.
حين تدافعت جموع الصغار فوق الدرج، وسط صراخ أولياء الأمور ،بهتافات الحماسة والتحريض لأبنائهم وبناتهم ,لاقتحام المدرسة ،للسيطرة على المقعد الأول ؛ فسقط تحت الأقدام عدد كبير من أولئك الأبرياء بين قتيل وجريح.