أنصتْ يا بُنيّ، فإني مُلقٍ عليكَ قولاً ثقيلاً، وإنّي مُحدّثكَ حديثا يُشفي نفسك من التطلّع للخبر، ويفتحُ عليكَ أبوابا من العبرة والموعظة كأنما أنت شاهدٌ أمرَها... ولمّا أحسستُ بدنُوِّ القبر والأجل، آثرتُ أن أخصّكَ ببعض ما شيّبَ هذا الرّأسَ شيْبا، وما كانَ الشيبُ يوما أمراً عَيبا، وهو زاحفٌ إليكَ لا شكّاً ولا ريْبا...
وما شيبُ رأسي من سنينَ تَطاوَلَتْ // عليَّ، ولكنْ شيَّبتني الوقائِعُ
أي بُنيّ، لا تختبِر عربَتَك على الإسفلتِ المُعبّد والطّرق المُمهّدة، فكلّ ما من شأنه التّدحرج يمكنه الانتقال بكلّ سلاسة عليها دون أدنى حريجة ولا إبطاء، حتى أن العربَة ستظن الأرضَ خالية من كلّ وُعورةٍ تحبس عجلاتها وأنفاسها !
اختبر إذن عربتك على الأرصفة والطرق الوعرة، على الحصى والصخور والجنادل والجلاميد حتى... فإن عبرتْ بكَ السفوحَ والجبال فالأحرى أن تعبُرَ بك السهولَ والوِِهاد ؛ حينها يمكنك القول: إني أملك عربة !
وكذلك شأن المرءِ مِنّا والنفسُ فيه كُلّما رماها الدّهر بشدائدِه وحشد من أجلها كلّ قواصِفِه، رأيتها تتأرجح بين القوة وبين الضعف، حتّى تقوى على ردّ الضربات ودفعها، والحكمة في جملة ذلك أنها تعلّمت حِيَلَ الدّهر فقويت وأصبحت نِدّا لنِدٍّ ... فلا تُريحنّ نفسكَ إلاّ إذا بلغت مبلغ الرّاحة، ولا تجعلنّها تميل إلى اللين و دلالٍ من الحياة، ألم ترَ أن بلح البحر لولا خشونة الجُرْف لفَقَدَ موطِئَ حياته ؟ فلا تكنْ نفسك من صُويحِبات القصعة والثريد، فقد
خَلَقَ اللهُ للحروبِ رِجالاً // ورجالاً لقصْعَةٍ وثَريدِ
و لك منّي تسع وعشرون حديثا جائياً إذا أمهلنا القدر يا بنيّ... وهذا أولها.