أي بُنيّ، هأنذا عائدٌ إليك ببعضِ حديثٍ سطّرتهُ على الشيبةِ التجاربْ، وملأتْ منه الدنيا أكياساً من العجائبْ، وقد عرفتَ العَجَبَ في كلّ خلقٍ خرج من بينِ الصُّلْبِ والتّرائبْ...
أي بنيّ، إن من مَقُولِ العرب أنّ مَنْ سابَقَ الدّهر كَبَا ألْفَ كَبْوة، وعليه نزيد أن من خَفّ لسانُه هَفَا أسوأ هفْوة،فإن أطلقته بلا عنان فهو لكَ نَجْوَة، وإن أحْكَمْتَ مَقادَتَهُ فهو لك عِزْوَة وثروة...
وبعد، فاللسانُ جارحةٌ ذات سطوةٍ وسلطان في الاجتماع البشري، وهو إلى جانب ذلك مصدرُ رهبة ومَبعث دهشة إذا أسْمَعَكَ مُترجِمًا أسرار الخاطر وبواطن النفوس بحُسن بيان، مُجيداً انتخاب اللفظ وانتقاء العبارة، ساحرًا الأسماع، فاتنًا الألباب حتى تُسْتَمال، فتستسلم للقول صدقًا كان أو زيْفًا؛ وإن كلَّ كلامٍ أُحْكِمَتْ صَنعتُه وأُجيدَ سَبْكُه صارَ كالدّينار مُتْقَنِ التزييف، يصعُبُ رَوْزُهُ وإطلاق الحُكْم فيه !
هذا صدر الحديث أما عجُزُهُ فدَعْوَتُكَ إلى كبح جِماح هذه الجارِحة ما وسِعَك الأمر ولم تَدْعُكَ إلى إنطاقِها ضرورة مُلِحّة؛ فإنّي لم أرَ جارحة في الإنسان كاللسان ينقُص قدْرُها كلما امتدّ عملها في الزّمن، ويكثُرُ غلطها كلما ادّعتْ لنفسها النطق بالصّواب، واللسان قليلُهُ كثيرٌ ومصلحَة، وكثيرُه قليلٌ ومَفْضَحَة، وقد أُفسدَ القول حتى اُحمد الصّممُ...
اعلم يا بُنيّ أنّ الصّمت في موضِعه لعلّه كان أنفَعَ لك من إبداء الحكمة في غير موضعها، فتَحَيّن كلّ فرصة تجودُ عليك بالصّمت والإنصات لحواسّك وصوتِ سِرِّكَ ومخبوءِ خاطِرِك، ولا تعتبِرَنّ صمْتَك عِيًّا ولا رهبةً ولا قلّة رجاحة عقلٍ أو عجْزا عن الإعراب والإبلاغ عمّا في النفس لغةً أو رمزًا، ولكن اعتبرْهُ زُهدًا في اللّغط الطافح على الآذان صباحَ مساءَ، وفي ضجيج قلّ نفعُه وإن أُحسِن صُنعُه؛ وإنّك، يا رعاكَ الله، لو عرفتَ فضائحَ المتكلّمين في كلّ خضراء، وهذْرَ الألسنة بالخُطب البتراء، لأطبقْتَ فكّيكَ واعتصمتَ بحبل قولِ القائل :
وجَدْتُ سُكوتي متجرًا فلزمتُهُ // إذا لم أجدْ ربحًا فلستُ بِخاسِرِ
وما الصّمْتُ إلاّ في الرِّجالِ مُتاجِرٌ // وتاجرُهُ يعلو على كلّ تاجِرِ
وبعد، فقد زادَ صوتُنا بكثرة الصناعة في الكلام حتى جاوزنا به ذروة السّنام، وظللنا مجرّد كائنات متكلّمة، قائلة، صارخة، منتفخة حدّ التخمة، فأغرقنا به هذا البلدْ، كالقطّ يحكي انتفاخًا صَوْلة الأسدْ، وكلُّ عبقريتنا مختصرة في "قال فلان" و"حدّث علاّن" و"خطب في الناس فلان" و " أعلن علاّن"...وهلمّ جرّا. وإننا حقا _ شئنا أو أبينا_ ظواهر صوتية في مجتمع رأسُ مالِه أقوالٌ، يجهل الفِعلَ والفاعل _ وإن احتفى بهما في علم النحو _ والصُّنعَ والصّانع، بل إن أقوامًا إذا عملوا جاهدين وأتوا بالآلة، انبرينا نحن لإعداد القصائد فيها وفوضى القيلِ والقالة، فغدونا بحكم العادة أسيادا في طحن الهواء والعلفْ، وإذا أتينا بفعلٍ ففعل الثور في مستودع الخزَفْ ! والحاصل أننا لسانٌ منفجرْ، وعقلٌ محتضَرْ، وبطنٌ مختمِرْ، ويدٌ تنتظر...
فالصّمتَ الصّمتَ يا بُنيّ، فهو وقارٌ وإدامةٌ للتأمّل والتفكّر والنّظر، وهو شرفٌ للإنسان وجُنّةٌ واحترازٌ، إذ لا يُدْرى مِن خلفه جهلُ الجاهل، ولا يُمتحنُ به عِلمُ العالِم، فيُحسن النّاس الظن بك ما لم تتفوّه بكلام؛ ولا تتجاوزنَّ من بناتِ الشّفاه ما يزيد على حاجتك، فإنّ شدّة اهتزاز الأرض يُسقِطُ البُنيان، وفرط اهتزاز الفكّين يُسقط الأسنان...