تضج القاعة بالتصفيق، تهتز جنبات ذلك المسرح .يقف منتشيا ليحيي معجبيه.ينحني في جلال وهو يرتدي عباءة ذهبية للملك المفدى .يستند إلى كرسي عرشه في إباء وعظمة.
لحظات يحياها بكل جوارحه، في تفاصيل عمله الذي يعشقه، كممثل في فرقة مسرحية مغمورة.
&&&
لابد له الآن، أن يغادر المكان إلى غرفته الرطبة بعد انتهاء العرض الكبير.
طفق يعالج بعضا من لقيمات الخبز الجافة والجبن المتعفن .يشاركه الغرفة فأر بليد؛ لم يعد يخشى الاقتراب من إنسان صعلوك يعيش في فقاعة الوهم الجميل.
يغيب في زجاجات خمره الرخيص، والمخدر الذي أدمنه ، فأصبح في حاجة ملحة له، أكثر من رغبته في طعام أو غذاء.أدمن الاستدانة، حتى أصبح غير قادر على سداد.
&&&
استقام في مسيره نحو غرفته الكائنة أعلى البناية الأثرية في ميدان المدينة الكبيرة، تسكنه نشوة السلطان العظيم.
ليلقاه حارس العقاب بوجهه المتجهم:
- الإيجار.
- صبرك علي يا عم عبده.
- ألم تعدني أنك ستدفع اليوم؟
- بعد يومين .. أعدك بذلك، الرحمة.
- لقد وعدتني عشرات المرات.ومالك البناية أيضا لا يرحم.
- طيب ، دعني أدخل حاجياتي من فوق رصيف الشارع. أليس من العيب عليكم أن أنام في العراء,بعد أن ألقيت بها هنا؟
- لا ذنب لي فيما حدث . فمالك العقار هو من أمر بذلك.وهذا حقه!
ودفعه الحارس من كتفه، مانعا إياه من دخول البناية.
- صرخ في الحارس المتجهم ، وقد وقف في حركة مسرحية بارعة ، مجسدا ملكا عظيما يلقي خطابه التاريخي :
- أيها الأحمق،أتمنعني وأنا الملك؟! وكان صوته يجلجل في الفضاء :
- أنا الملك. نعم أنا الملك. الشعب من حولي يحبني .. يلتف حولي.
- أمسك الحارس بتلابيب الممثل المغمور، وألقى به إلى رصيف الشارع نصف المظلم.
- التأم الناس وتجمعوا حول الصراخ والعويل .. والمشاجرة بين الممثل المسكين وحارس العقار.
- انتفض الرجل واقفا، محاولا لملمة كرامته المبعثرة، وأشار بيده كقائد عظيم :
- نعم عليك أن تحترمني بل وتقبل أقدامي ...
- أيها المجنون المخرف..أغرب عن وجهي!
وأمسك به مرة أخرى ودفعه ليسقط فوق أحجار الرصيف مرة أخرى.
- ورغم انتصاف الليل بساعات ، إلا أن الناس قد ازدحموا حول الرجل البائس .. فمنهم من يضحك .. ومنهم من يهزأ ... ومنهم من يأسف ويحزن ... لكنهم على أية حال، لم يحرك أحد منهم ساكنا لفعل شيء لهذا الرجل البائس.
- ومع اشتداد بكائه ونشيجه، وانصراف حارس العقار عنه، تاركا إياه ملقى فوق حاجياته التافهة.
انفض الجمع رويدا رويدا ، وتفرق الناس، وتكوم الرجل جالسا على ركبتيه، دافنا رأسه بين رجليه ، وهو يهتز من بكاء شديد... محدثا نفسه بصوت مخنوق .. أنا الملك .. أنا الملك.
رويدا رويدا ، خمد صوته، واستلقى على جنبه ، فوق أغراضه التافهة، وغط في نوم متقطع، مفزعا، قلقا، منهكا.
هل كان بطل ليلة عرض جديد؟ أم استحال لبقايا حطام إنسان، ترافقه فوق سريره الحجري البارد، كوابيس مخيفة هي تفاصيل البائسة؛ يجتر معها بعضا من تصفيق ليس من حقه ، وإعجابا لا يستحقه، وهتافات عظيمة ، تصفع أذنيه، ثم تذهب هباءا في الفضاء العريض؟
من قصص ( صعاليك على العرش)
م. نديم علي