(6)
عدم قدرة المستخدِم لنظام الخليل على الحكم على الإيقاع المستجَد أو المستدرَك، أهو عربي أم غير عربي. وإذا كان عربياً في الإطار العام، هل هو موافق لشروط العرب أم شاذ عنه؛ هو بحد ذاته صعوبة قائمة بنفسها في نظامه. فنظام الخليل عاجز على الحكم على الإيقاع المستحدَث عجزاً مزمناً؛ فحتى لو كان القالب المستجَد محل البحث عربياً في الإطار العام، فهل هو خالٍ من أية مخالفة إيقاعية، أم به مخالفة إيقاعية؛ وهل المخالفة الإيقاعية الحاصلة بسيطة ما يجعل الحاصل معها كسر نَغم، أم هي مخالفة خطيرة ما يجعل الحاصل معها هو كسر إيقاع مرفوض حتى لو كان منشأه قانونياً. فكل هذا لا يستطيعه نظام الخليل. أمّا نظام قضاعة فيستطيع ذلك؛ فنظرية قضاعة قامت على القواعد الصوتية والإيقاعية التي سارت عليها قرائح العرب، سواء وردت القوالب موثقة عنهم أم أبدعها شاعر معاصر.
فالنظرية العروضية ومسطرتها من ورائها، إذا فقدت القدرة على الحكم على ذلك بموثوقية عالية، فقد فقدت الهدف الجوهري منها، حتى لو أرغمت ظروف موضوعية بقائها مهيمنة على الساحة العروضية؛ ذلك أنّ قضية العروض العربي برمتها هي قضية إيقاعية وليست قضية لُغوية. فإذا كان نظام الخليل العروضي قد أدّى الدور المنوط به طوال مدة ألف ومائتي سنة تقريبا، فهذا لا يقدح فيما ذكرناه تواً؛ وهناك سبب عقلي يشرح ذلك. (1)
(1): السبب العقلي الذي يشرح ذلك، يشرحه البند العقلي رقم 12 في (مختصر خريطة العقل)، وهو: أنّ الحكم الظنّي المستوفي للشروط المعتبرة، أي له براهين وقرائن معتبرة وليس عن هوى؛ حتى لو كان موجهاً لوجود الواقع وليس لماهيته فقط، هو فكر صائب؛ فيظل صائباً حتى يتبين خطؤه؛ فإذا تبيّن خطؤه فعندئذ فقط يُحكم عليه بالخطأ. وعلى ذلك، فالتذمر من صعوبة نظام الخليل والإقرار بوجود أخطاء فيه، هو شيء مختلف عن العجز عن إيجاد بديل له أفضل منه ومـُحكم مثله؛ فلم يستطع احد مدة ألف ومائتي سنة تقريبا [حتى مولد عروض قضاعة كما أزعم]؛ أن يأتي بما هو أحسن من نظام الخليل، ناهيك عن أن ينقضه، لهو الدليل العقلي على ذلك.
بما في ذلك محاولة أحد العروضيين الرقميين، الذي زعم أن طريقته الرقمية تجسيد لفكر الخليل الشمولي..! فصرفَ بهذا الادعاء بعض العرب عن عروض الخليل إلى طريقته الرقمية، وما عادوا يعرفون عن نظام الخليل إلّا شكليات؛ لكنه أتى بأعاجيب نقض بها أساسات نظرية الخليل دون يدري. وسيكون لنا مقالة طويلة قريباً، ننسف فيها مزاعمه.
فلا شك أنّ القوالب الموسيقية العربية عالية الطراز، وقد تأكد لنا ذلك في الكتاب الأم لعروض قضاعة؛ لكن هذا النظم العالي الطراز بنظر الأتباع، قد انحصر فيما أثبته الخليل من قوالب في نظامه؛ لكن نظرية الخليل بسبب طبيعتها، والتي هي مستندهم في الحكم؛ عاجزة على الحكم على الإيقاع المستحدَث والمستدرك عجزاً مزمناً. وإذا لم يكن للقالب المستدرَك مكان في نظام الخليل، لا يتردد القوم بالحكم عليه بالشذوذ، مع عدم قدرتهم على بيان سبب شذوذه بياناً شافياً (راجع المعيار للشنتريني كمثال). مع أنّ قضية العروض العربي برمتها هي قضية إيقاعية وليست قضية لُغوية كما قلنا وسنظل نقول.
فمثلاً: عدا عن الأمثلة التي مرّت معنا سابقاً، ولا مكان لها في نظام الخليل؛ فإنه إذا تواجه نظامه مع نظم على الهزج التام، كما في قصيدة للبحتري (عباسي ت/ 284 هـ) [وهي قصيدة عدّت تسعة أبيات، ديوانه: قطعة رقم 452، ص 1119، مطلعها: أَبـَا الْـعَبـّاسِ بَـرَّزْتَ عَلى قَـوْمِ ... كَ آداباً وَأَخْلاقـاً وَتَبـْرِيْـزا: مفاعيلن مفاعيلُ مفاعيلُ ... مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن]. حيث لم يرد في نظمه هذا مفاعلَتن لتُحسَب على الوافر التام الذي له مكان في نظامه؛ فليس للهزج التام مكان في نظام الخليل، لأن الخليل يعتبر الهزج مجزوء وجوباً؛ لكن حُـجّة الـجَـزْء وجوباً ليست حُـجّة إيقاعية معتبرة، ولا حجة صوتية معتبرة.
أمّا إذا تواجه نظام الخليل مع هذا النظم العالي الطراز والجميل لشاعر معاصر، الموافق لشروط العرب في صناعة القوالب، والموافق لطريقتهم في النظم كذلك؛ فسوف يحكم عليه أتباع نظام الخليل بأنه ليس بعربي؛ ليس لشيءٍ إلّا بسبب أنه ليس له مكان في نظام الخليل..!
قال الشاعر اليمني جَبر البعداني (شاعر معاصر): (نقلاً من موقع العروض الرقمي للأستاذ خشان: https://arood.com/vb/showthread.php?p=56008#post56008)
مَــسَائِـيْ مَــداراتٌ مِنَ الْأَرَقِ ... وَصُـبْحِـيْ مَساحاتٌ مِنَ الْــقَــلَقِ
//0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0 ... //0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0
فعولن مفاعيلن فعولُ مفا ... فعولن مفاعيلن فعولُ مفا
وَيَــوْمِيْ فَـما يَــوْمِـيْ سِوَى نَـــزَقٍ ... سَأَمـْشِيـْهِ فِي شَـوْقٍ إلى نَـــزَقِ
//0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0 ... //0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0
حَياتِـيْ كَـمَا قَــلْبِـيْ مُـعَـلَّــقَــةٌ ... مِنَ الْـوِجْدِ مَا خُـطَّـتْ عَلَى وَرَقِ
//0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0 ... //0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0
فهذا القالب من الطويل، وهو موافق لشروط العرب في النظم بحسب تقرير نظام قضاعة. لكن لم يثبته الخليل في نظامه، بل لا مكان له فيه إطلاقاً. فلم يصنع الخليل علة تحذف أربعة حروف من الجزء، ممثلة بسببين خفيفين متروكين [عيلن من مفاعيلن]، فأقصى مقدار قد تحذفه علة من حروف آخر الجزء في نظام الخليل، فيستطيع نظامه تحمله؛ هو ثلاثة أحرف [على ما شرحنا عند تفسير عند علل نظام الخليل في الكتاب الأم لعروض قضاعة]. كما أنّ توصيف الضرب لهه القصيدة التوصيف الصحيح في نظامه، سيواجه معضلة عويصة، فهو بحاجة إلى مفهوم الاعتماد في المتقارب وليس مفهومه الذي في الطويل؛ وذلك ليشير إلى ضرورة التزام قبض فعولن التي قبل العروضة والضرب [فعولُ مفَا //0 / //0]، لا على الاستحسان كما هو الحال في الطويل، بل على الوجوب كما هو الحال في المتقارب.(2)
(2) الاعتماد في نظام الخليل لقَب للزحاف وليس زحافاً. فالاعتماد فيه عموماً، هو وصف متعلق بزحاف جزء في الحشو، لكن أثر فعل هذا الزحاف سيقع على تسلسل الضرب؛ ومفهوم الاعتماد في المتقارب معاكس لمفهوم الاعتماد في الطويل. فهو في الطويل محصور بعجز النوع الثالث فيه [فعولن مفاعيلن فعولن مفاعي: الطويل ذو العروضة التامة المقبوضة، ولها ضرب محذوف معتمَد]. فالاعتماد في الطويل هو أنّ ورود (فعولن) قبل الضرب المحذوف سالمة من زحاف القبض، هو أمرٌ قبيح؛ أمّا ورودها مقبوضة فهو الحسن (فعولُ). فقبضها هو الاعتماد هنا، أي أنّ الاعتماد في الطويل على الجواز وليس الوجوب. أمّا الاعتماد في المتقارب فقصته مختلفة، فعدا عن أنّ مفهومه معاكس تماماً لمفهومه في الطويل، فأيضاً وظيفته في المتقارب مختلفة تماماً. فهو في المتقارب، وفي في النوع الثالث والخامس منه [النوع 5: فعولن فعولن فعولن فعو: المتقارب ذو العروضة التامة الجائز فيها الحذف والقبض والقصر، ولها ضرب أبتر معتمَد]. فالاعتماد فيه يعني وجوب المحافظة على سلامة فعولن من زحاف القبض في العجز، هذه التي قبل (فعو). وهذا الاضطراب في مفهوم الاعتماد في نظام الخليل، سببه خطأ فكرة الجزء.
وقد ذكر أبو الحسن العروضي (ت/ 342 هـ) هذا القالب من الطويل ، فشنّع على صانعه أشد تشنيع، ليس لشيء سوى انه لا مكان له في نظام الخليل؛ وذلك تحت عنوان (باب الاحتجاج للعَروض والرد على من خالفَ أبنية العرب)؛ ولنستمع لِما قاله أبا الحسن من البداية، فمن وراء ذلك مغزى لنا. قال: {**، فإنّ قوماً يزعمون أنّ الأبنيَة يجوز أن تكون أكثر من هذه، وأنّ الخليل لم يحصرها عن آخرها. ويقولون لو أنّ إنساناً عمل شعراً من عنده واخترع وزناً من ذاته، لكان ذلك جائزاً. ونحن نبيّن فساد ما ادّعى هؤلاء ونستقصي الـحُجّة عليه إن شاء الله تعالى. أمّا مَنِ ادّعى أنّ أوزان الشعر أكثر من هذه التي ذكرها الخليل فيقال له: من أين صَـحَّ عندك ذلك، أمِن جهة رواية وقعت إليك، أم مِن ظن ظننته..؟ فليس بالظنّ يبطل اليقين، ولا بالشكوك تَـفسُد البراهين}. (الجامع ص 60).
ثم انحرفَ أبو الحسن عن موضع النزاع، فجعل اعتراض المعترض على ذلك وكأنّه ملازم لاتهام الخليل في علمه وقدره، مع انه ليس هناك تلازم بينهما أصلاً، فكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد عليه، والاحترام والتقدير هو غير التقديس الأعمى؛ فقال أبو الحسن متابعاً قوله السابق: {وإن كان من جهة رواية، فما أحسبك تحشر الخليل في الرواية ولا تتقدمه في الدراية، إذ كان هذا الرجل [يقصد الخليل]، قد ظهر من علمه وبراعته، ما قد بان فضله عند العامة والخاصة من أهل العلم}.
ثم عاد أبو الحسن لموضع النزاع فقال: {وإذا تُتبّعت الأشعار التي نقلتها الرواة عن العرب الفصحاء لم تخرج عن الأوزان التي ذكرها الخليل، ويشهد بعضها لبعض؛ فكيف يمكن أن تكون الأوزان أكثر من هذه وقد حُدّت وجُـمعت وأُخذ فيها بالوثيقة، ولم يُترك لطاعن متكلّم ولا لشَغْب مَغْمَز}.
ثم ذكر حجة المعترض القوية، تمهيداً للرد عليها، فقال: {فإنِ احتجّ مـحتج فقال: الدليل على أنّ الأوزان أكثر من هذه، وأنّ الخليل قد أغفلَ منها شيئاً؛ وإذا جاز الإغفال عليه في بعضها، جاز أن تكون هاهنا أشياء قد ذهبت عنه لم تبلغنا؛ كما في ما يُروى عن عُبيد بن الأبرص **، وقول الحارث بن حنش السلّمي **، وقول محمد بن إياس الليثي **، وقول سلَمة بن ربيعة الضبي **، وقول أم تأبّط شرا **، وقول المحدثين منهم أبو نواس **. فهذه الأشعار لا تخرج من العروض ولم يذكرها الخليل، ولعل أشياء كثيرة لم تبلغنا قد ذهبت عليه ولم يُحِط بها علمه، مما شكّوا أن تكون الأوزان أكثر من هذه}. (3)
(3) المقصود بما يروى عن عبيد الأبرص، هو قصيدته المضطربة على مخلع البسيط التي مطلعها: (أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ مَلْحُوْبُ ... فَالْقُطَّبِيّاتُ فَالذّنُوبُ). والمقصود بقول الحارث بن حنش السلّمي، هو مشطور له على البسيط لم يثبته الخليل في نظامه، مطلعها: إنّ أَخِيْ هاشِمَاً لَيسَ أَخَاً واحِدْ. والمقصود بقول محمد بن إياس الليثي، هو مقطوعته على الرمل لم يثبته الخليل في نظامه، مطلعها: إنّ لَيلِيْ طالَ واللّيلُ قَصِيرُ ... طالَ حَتّى كادَ صُبْحٌ لا يُنِيـْرُ. والمقصود بقول سلَمة بن ربيعة الضبي، هو قصيدته له على قالب في البسيط لم يثبته الخليل في نظامه، مطلعها: إنّ شِــواءً وَنـَشـــْوَةً ... وَخَــبَـبَ الْبـازِلِ الْأمُــوْنِ. والمقصود بقول أم تأبّط شراً، هي القصيدة التي تنسب أيضاً للسَلَكة أم السُلَيك، اختلف عروضي الخليل عليها أهي تنسب للمديد أم للرمل، وعروض قضاعة ينسيها للمديد: مطلعها وثاني بيت فيها: طافَ يَـبْـغي نَـجْــوَةً... مِن هَــلاكٍ فَهَـلَكْ. ليتَ شِعْري ضلَّـةً ... أيُّ شيءٍ قـتَــلَـكْ. والمقصود بقول أبا نواس، هو قالب للمنسرح مستدرك على الخليل ولم يثبته الخليل في نظامه، وهذا القالب من المنسرح نظم عليه شعراء قبل زمن أبي نواس، وهما: عمرو بن أحمر الباهلي- مخضرم، فله عليه قصيدة سبق وعرضناها، مطلعها: عَذَّبَنِي ذُو الجَلالِ بالنّارِ ... إنْ هامَ قَلبي بِذاتِ إسْوارِ. ونظم عليه كذلك شاعر أموي مقطوعة، هو قيس بن ذُرَيح، مطلعها: ماتَتْ لُبَيْنَى فَمَوْتُها مَوْتِيْ ... هَل تَنفَعَنْ حَسْرَةٌ على الْفَوْتِ. فهذه القطع لها مكان في نظام الخليل لكن الخليل لم يثبتها في نظامه.
فيردّ أبو الحسن العروضي على هذه الدعوى فيقول: {**، وما هذه الأشعار الشواذ في جنب الأشعار الصحيحة الوزن، إلّا كالإبرة التي ترى في الجبل الذي لا يخفى. **، وبعدُ، فإنّ هذه الأشعار التي ذكرت أنها لا تخرج من العروض، أنّ الخليل لم يذكرها؛ فكلها لها مذهَب في العروض نبيّنه ونوضحه؛ وكلها ذكرها الخليل ولوّح بها وعرّض بذكرها}. (الجامع، ص 60 - 66)
وعن قالب الطويل المذكور سابقاً، الذي جاء عليه قول شاعرنا المبدع جَبر البعداني، قال أبو الحسن (ص 67): {**، قد كان هذا الرجل الذي عرّضنا بذكره، يزعم أنّ له أوزاناً هو اخترعها وابتدعها لم يسبقه احد إلى مثلها، وكان له قوم يتعصبون لمذهبه **، وليس يـحسّون بمواضع التلبيس فيها لضعفهم في هذا العلم وقلة بصيرتهم فيه, **، ومما لَـبّس فيه قوله:
بِـنَـفْسِيْ حَبِـيْبٌ صَدَّ وَاجْـتَـنَــبَا ... وَأَظـْــ هَـرَ لا مِنْ رِيْـبَـةً غَضَــبَا
//0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0 ... //0 / - //0 /0 /0 - //0 / - //0
فعولن مفاعيلن فعولُ مفا .... فعولُ مفاعيلن فعولُ مفا
وَوَالله ما أذْنَــبْـتُ أَعـْــلَـمُــهُ ... إلَـيْــهِ، ولا وَجَـدْتُــهُ سَـبَـــبَا
//0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0 .... //0 / - //0 /0 /0 - //0 / - //0
فهذا الشعر مركّب، جعل في صدر كل بيت منه فعولن فعولن، ثم جعل بعده فاعلن فعِلن؛ وكذلك فعل في النصف الأخير. ويجوز أن يكون عَمد إلى الطويل فجعل عروضته وضربه فعِلْ، لأن أجزاءه كلها تخرج من الطويل إلّا العروضة والضرب؛ فكأنه قصد إلى مفاعلن [عروضة الطويل التي ليس له عروضة غيرها في نظام الخليل]، فحذف منها (علن) فبقي (مفا)، فنقله إلى فعِـلْ}. (الجامع، ص 70)
ثم انصرف أبو الحسن العروضي يهاجم هذا القالب ويهاجم صانعه، بكلام هو أوهى من بيت العنكبوت؛ قال: {وما مثله في هذا إلّا مثل من تعمّد الـلّحن وقصد الخطأ، لأنه إذا قصد إلى أوزان العرب فبدأ بها، ثم خلط بها غيرها وقال هذا وزني؛ قيل له: ما هذا بوزن، ولكنك أخطأت الوزن وخالفت الوضع، **، وما أنت في هذا إلّا مثل رجل قال قد وضعت غريباً لنفسي فسمّيت الذهب (الشغليق)، والفضة (الطفَفْثور)، **، وكرجل قال قد عملت لنفسي نحواً لم يسبقني إليه أحد، خالفت فيه جميع العرب؛ فنصبت الفاعل ورفعت المفعول، **، أفلا ترى إلى شناعة هذا القول وقبحه؛ فكذلك يقبح قول من يقول قد ابتدعت وزناً من عندي، **، إلّا أنّ القبح الأول أبين لمعرفة الناس به ووضوحه عندهم، وهذا يَبعد عليهم لقلة أُنـْسهِم به ومِرانهم فيه، فلذلك احتمل هذا التلبيس وخفِـيَ عليهم}. (الجامع، ص 70)
أقول (ابو الطيب): هل لاحظت أنّ أبا الحسن رحمه الله، قد غابت عنه حقيقة الشعر نفسها، وأنه يخلط بين أمرين، الأول: بين البحر وقوالبه، والثاني: بين عروض شعر العرب وعروض غيرها. أمّا أنّ أبا الحسن قد غابت عنه حقيقة الشعر نفسها، وأنه يخلط بين عروض شعر العرب وعروض غيرها؛ فهذا واضح من جعله مخالفة أوزان العرب التي أثبتها الخليل، هو بمرتبة الخطأ في النحو واللغة..!
لكن الكلام في الشعر ليس فيه خروج على قواعد اللغة؛ فمفهوم الشعر عموماً، هو استخدام جُمل اللغة المعينة في الشعر بأسلوب مثير للعواطف، غير الأسلوب العادي في الكلام. وهو بمفهوم العرب موزون مقفّى. وعند غيرهم من الأقوام، قد يكون موزوناً على شرط العرب وقد لا يكون. وقد يكون مقفّى وقد لا يكون. فتتويج جميع جمل الشعر بالقافية يرجع لثراء اللغة وطبيعة نحوها وصرفها، وليس لأيّ سبب آخر. (الجملة في الشعر العربي، ص: 5- 18). وعلى ذلك، فمفهوم الشعر أوسع من مفهوم العروض بكثير ؛ فعند العرب شعر، وعند الأقوام غيرهم شعر؛ أمّا أنّ شعر العرب أعلى كعباً من شعر غيرها بسبب كذا وكذا، فهذا تفصيل إضافي لا يسلب استحقاق ما أنتجه غير العرب بهذا الشرط، مسمّى شعر. (4)
(4) ونفس هذا الرأي عن المفهوم المغلوط للشعر عموماً، سنجده عند الأخفش (ت/ 221 هـ)، وعند تلميذه الزجّاج (ت/ 311 هـ)، قال الأخفش: {**، فإنهم جمعوا كل ما وصل إليهم من أبنية العرب، فعرفوا حروفها ساكنها ومتحركها. وهذا البناء المؤلّف من الكلام هو الذي تسميه العرب شعراً. **، وما خالفه وإن أشبهه في بعض الأشياء، فليس اسمه شعراً} (العروض للأخفش، 143). وقال الزجّاج نفس قول الأخفش تقريباً، إلّا انه زاد فقال: {**، فلم يَـخف عليهم من ذلك إلّا ما لا بال به}. (العروض للزجّاج، ص 120). فلو كان الاتفاق على مفهوم الشعر بمعناه العام حاضراً عندهم، لَما اختلف على منهوك الرجز ومنهوك المنسرح بأنها ليست بشعر (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص 203)، مع أنها في الإطار العام قد مضت على ما مضت عليه مشطورات السريع.
بل أنّ الكلام المنظوم على هيئة قوالب العرب، أي مؤلفاً من أنساق كما يقول عروض قضاعة لكنها غير منتظمة التكرار، أو يكون القالب معلول المهاد في أصله، أو غير محقق للقاطع، أو غير ملتزم بأحكام التلوين؛ فهو يستحق مسمّى شعر أيضاً. بل لو قد التزم فيه بوجه واحد من الإيقاع لا يفارقه، لكن أسسه العروضية مخالفة لأسس عروض العرب، كأن يكون متعثراً، فهو يستحق مسمّى شعر أيضاً. لكن لا يحق لناظمه أن يطالبنا بأن نخـتم له بختم الخليل أو بختم قضاعة، بأنّ نظمه نظم عربي؛ فهذا هو أصل الخلاف في هذه المسألة، وهذا هو دافع حضور نظرية عروضية عربية تصف وتقنن علم عروض العرب لتميزه عن غيره ليس إلّا. (5)
(5): (راجع المقالة التي بعنوان: (الفرق بين الإيقاع المجرّد والإيقاع العربي، وأهمية العروض للعربية)- في رابطة الواحة.
وبمعنى آخر، يحق لهذا الرجل الذي لم يسمّه لنا أبا الحسن، إنما اكتفى بأن عرّضَ بذكره؛ أن يخترع من الأوزان على هيئة قوالب العرب ما شاء. ووظيفة العروضي أن يقرر أيّ من هذه الأوزان موافقة لشروط العرب، وأيها مخالف لها؛ لكن لا يحق للعروضي أن يسلب شموله بمصطلح (شعر)؛ ولا يحق لهذا الأخير أن يرغمنا على اعتبار كل ما استحدثه تابع لنظم العرب بالضرورة.
... يتبع.