الأناضولي
قابلته في زمالة عمل مؤقتة.ربعة ،متين البنيان، مع بياض في وجه سمين تشوبه حمرة.
كان حدسي يوحي لي بأنه من جنس تركي، من هضبة الأناضول،منذ رأيته للوهلة الأولى.
توحي خطوته بأن زلزالا سيهز الطريق تحت وقع ضربات حذائه الفخم شبه العسكري.
إذ كان حريصا على التفاخر أمام زملاء العمل ، بأنه لا يرتدي سوى الماركات العالمية من ملابس وأحذية ، متعطرا بالروائح غالية الثمن.
&&&&
كنا نجتمع سويا في استراحة العمل بغرفة المكتب.
كان حكاءا ، ثرثارا.حانقا ، غاضبا ؛ خاصة على تاريخ البلاد بعد ١٩٥٢.
وكان يستفيض في الهجوم على التغيرات الحادة التي أجرتها حركة الضباط في المجتمع المصري.
كل ذلك طبيعي، فلكل رأيه السياسي. لكن صاحبي كان مصابا بمتلازمة ( جدو الباشا، ( وتيزة) جدته لأمه، ذات الأصول التركية)
لا أمانع في أن يفخر أحدنا بأصوله، ولا أن يزهو بأجداده؛ لولا أن تلك المتلازمة ،كانت تنز بكل ملحقاتها من أسلوب فج في النقاش ينم عن عجرفة ، واحتقار للطبقات الأدني من المجتمع.
وكان دائم الاعتزاز والفخر بأصولهالأناضولية!
لقد صدق حدسي إذن.
أناضولي ، نموذجي، لا ينفك يذكر أملاكهم التي أممت، وثرواتهم التي استولت عليها الدولة، وأراضيهم التي وزعت على صغار الفلاحين.
أولئك السفلة ، الخبثاء، الذين لا يستحقون في نظره، غير الكرباح في التعامل معهم.
&&&&
كان يمقت صغار العمال والفلاحين. وانعكس ذلك على علاقته بالعاملين في عمله كمشرف عليهم.
فهو لا يعدم حيلة في تصيد أخطائهم.
ومعاقبتهم والتنغيص عليهم.
لم تكن للشباب العامل معنا سلبيات خطيرة ؛ سوى تلك الهفوات الإنسانية البسيطة ، من تأخر عن وقت العمل ، وربما لظرف طاريء أو مرض . لكنهم كانوا كأي مغترب، حريصين على العمل ومصدر عيشهم. وكانت قيادتهم سهلة، حيث كنت أتفهم ظروفهم، وأطالبهم بالتركيز في العمل. كنت أشجعهم، وأحافظ على العلاقة الإنسانية الطيبة معهم، دون إخلال بنظام العمل ولوائحه.
لكنه كان كثير الاعتراض على طريقتي تلك، منبها إياي بأن هؤلاء لا يصلح معهم سوى السخرة.
وكثيرا ما كان يدس ضدهم وضدي عند صاحب العمل ذي العقال ، المتشكك دائما في الغرباء.
حتى أقر في نفس الرجل أنه وحده الحريص عليه وأننا ضد مصالحه.
وكان يمشي بين زملائه، فخوراً متباهيا بعلاقته الحميمة بصاحب العمل.
&&&&
أصبحت مجموعات العاملين تتحاشى التعامل معه.
ووصل بهم الحد نحو التذمر.
كانوا أبناء وطننا المغتربين. وكان أحدهم من أهل قرية ذلك الأناضولي، ويعلم أصوله وأهله وأجداده. وكثيرا ما كان يذكر لي أن ذلك المتعجرف ، فأر ضعيف مذعور أمام زوجته.
وأن جده كان مجرد سايس وكلاف للبهائم في حظائر الباشا التركي،مالك العزبة.والتي كانت زوجته أيضا تدعي أمام الناس، أنه جدها لأمها.
حقيقة ، لقد أصبح في نظري كائنا يستحق الشفقة!!
&&&&
تحولت طاحونة العمل عدة مرات خلال سنوات عشر، من مكانها إلى عدة أماكن.
ودارت بنا السنون، وابتعد من ابتعد ،واختفى من اختفى.
يوما ما,و نظرا لظروف اقتصادية حرجة، صدرت حركة مفاجئة لإنهاء خدمات عاملين وافدين,وكان اسم الأناضولي على رأس القائمة.
قيل أنه انهار، وأرغى وأزبد، وتفاجأ بالأمر، ودار على مكاتب المسئولين ، ممن كان يظنهم أصدقاءه، وداعميه، دون جدوى.
تركوه لمصيره، فشد رحاله إلى وطنه ، مضطرا، مقهورا.
&&&.
أشهر قليلة، وأصابه الاكتئاب، وتدهورت أحواله الصحية ؛ وتنكرت له زوجته وابنه الوحيد، واستولت على ما جمعه في سني غربته بتوكيل رسمي, كانت قد أجبرته على منحه لها، منذ عقود. فقبع في بيت أبيه القديم ملوما محسورا.
من حكايات روايتي :
صعاليك على العرش