لماذا يدفع لسائق تاكسي عشرين جنيها في مشور داخل المدينة؟ لماذا لا يشارك البسطاء ركوب المايكروباص الذي لا يكلف سوى جنيهين لذات المسافة لمرتين يوميا؟
عزم أمره أن يخلع نفسه من هذا السفه ، ويوفر مبلغا محترما من المال شهريا .
حشر نفسه بين الركاب ذوي الوجوه الطيبة، الذين لم يوفروا عونا ولا ابتسامة من أجل مساعدته على الركوب حشرا،سعيا أن تتحرك الحافلة بسرعة إلى مقاصدهم ، رغم ارتفاع صوت الأغاني الشعبية الصاخبة بشكوى الدهر وخيانة الصديق وظلم الإنسان لأخيه الانسان ، والدخان العفن لسجائر السائق ذي العينين نصف المغمضتين والصوت المتحشرج .
تورط كثيرا في ( جمع الأجرة). ودفع أحيانا من جيبه فروق الفكة وأخطاء الحساب ، جراء ارتباكه في ساعات الزحمة وأوقات الذروة.لكنه كلما تذكر ما سوف يتوفر معه آخر الشهر ، كانت تهون عليه تلك المعاناة.
تعرف على المحطات الشعبية لتوقف المايكروباص وهي محطات ابتدعها الركاب من واقع طبوغرافيا الأماكن ومعالم الطريق على امتداد الأحياء الشعبية في تلك المدينة الصاخبة بالناس والزحام والقمامة والضوضاء ومياه الصرف الصحي والغبار!
(الكاوتش يا اسطى ... عند بتاع الكاوتش ).
(السنية ... مسجد)
( التلج يا ريس ... عند مصنع الثلج)
(سجل يا ريس .. السجل المدني)
الفرن يا اسطى ...
الكنسية ....!!
نبهت كل تلك المحطات ذاكرته لتنعش في وجدانه صورة الوطن الذي غاب كثير من مشاهداته عن وعيه الظاهر، طوال غربته الطويلة في بلاد الرمل والزيت والشمس المحرقة والدولار.
إذن لماذا لا يستعيد ذكرياته الدافئة بين أهله وناسه وتحت سماء بلاده
التي ما زال أهلها يعالجون الهموم والظروف بصبر عجيب. ويحيون الحياة بما توافر لديهم من بقايا أمل وفسحة وقت ، وبعض قروش.
كانت رائحة الفول والطعمية تعم الشارع الذي صحا مزدحما هادرا بالجموع الساعية إلى مقصدها بين مدرسة وباب رزق ،ومصحة علاج ومؤسسة حكومية، ومحكمة عدل.
جلس ، قلقا،مضطربا ,وكأنه يخشى من الوجوه التي تحوطه، وتكاد تلتصق بأنفه.
في نهاية الخط صاح بصوت خجول مشروخ:
الفرن يا أسطى
نزل من فوهة ذاك الجحر الحديدي الضيق.وقف على رصيف الشارع أمام بركة من مياه سوداء.
.. تحسس مكان حافظة نقوده المنتفخة ... فوجدها مكانها في جيبه الخلفي!