للدائرة وجود حقيقي في عروض العرب، لكن الخليل وظّفها لخدمة نظامه فقط؛
فلا يمكن إعادة هيكلة نظام الخليل بحيث يبقى مترابطاً شاملاً، دون فكرة الدائرة.
الباحث العروضي/ أبو الطيّب ياسر بن احمد القريـــــــني البلوي القُضاعي
(1)
قد كانت دوائر نظام الخليل الخمس سرّاً استعصى على الفَهم، لم يهتد أحد إلى كشف سرّها الحقيقي (نمط صعب ونمط مخيف، ص 89، محمود شاكر)؛ إلّا أنّ هناك محاولات قد جرت في هذا الاتجاه طبعاً. وقد كثر التشكيك بفكرة الدائرة، قديماً وحديثاً؛ وهذا دفع البعض ليس إلى إعادة البحث في ماهيتها، بل إلى إنكار وجودها في نظام شعر العرب جملةً وتفصيلا. فراحوا يتساءلون كمقدمة منهم لإنكار وجودها: ما أدرانا أنّ العرب قد قصدت اقتطاع البحور من هذه الدوائر..؟
فهذا التساؤل قد عـبّر حازم القرطاجَنّي عن مضمونة بصراحة (منهاج البلغاء، ص 231- 232)، وقد كان هذا الرأي منه هو بعض رأي الأخفش من قبله (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص 193). كما أنّ هناك بعض العروضيين والشعراء المعاصرين، وكذلك بعض الأصواتيين الذي حاولوا اقتحام علم العروض العربي؛ قد عبّروا عن هذا الرأي بشكل أو بآخر، منهم نازك الملائكة، وإبراهيم أنيس وعبد الله الطيّب، وشكري محمد عيّاد، وعمر خلّوف، وسليمان أبو ستة؛ وعبد الحميد الراضي.
(1) فعبد الله الطيّب يرى أنّ الخليل يعلم بذوقه أنّ الأوزان ما هي إلّا أشكال موسيقية، فالـتمس لها نموذج الكمال في الدائرة، وحين استعصى عليه أن يضع كل بحر موجود في دائرة، توهّم أصلاً دائرياً ينبع منه ذلك البحر، فنسبه إليه وبنى أنظمة الزحاف والعلل على ما اقتضاه هذا التوهم. (المرشد إلى فَـهم أشعار العرب وصناعتها، ج 3، ص 812). وشكري محمد عيّاد يرى أنّ دوائر نظام الخليل لا تعني شيئاً أكثر من الجمع الآلي بين عدد من البحور (موسيقى الشعر العربي، ص 71). وموقف عمر خلّوف من الدائرة هو مثل موقف شكري عيّاد منها، فهذا واضح تماماً في سلسلة كتبه المثبتة في مصادر هذا الكتاب. وواضح هذا في أقواله على الانترنت (شبكة الفصيح كمثال). أمّا موقف سليمان أبو ستة السلبي من الدائرة، فهو يتضح من نظريته (في عروض الشعر العربي)، فهو لم يأت في نظريته على أهمية الدائرة لعلم العروض العربي، بل أنه أتى بما ينقضها في نظريته المذكورة؛ فقوله بالمجموعات الوزنية التسع الأساسية، التي ينبثق عنها خمسة وأربعين نسقاً بظنه، لهو نسف لفكرة الدائرة من أساسها (ص 31). أمّا الأستاذ خشّان فيقف بقوة مع فكرة الدائرة، وهو يَعتبر أنّ دوائر البحور هي الأقرب تمثيلاً لفكر الخليل بشموليته، وما العروض بتفاعيله وبحوره إلّا وسائل إيضاح لها كما قال (العروض رقمياً - بحث في منهجية الخليل، ص 22). لكن إدراك خشان لماهية الدائرة العربية مضطرب جداً، فهو لم يغادر طبيعة الدائرة التي قالها الخليل، والتي هي سبب التذمر والتشكيك بفكرة الدائرة أصلاً كما سنرى بعد قليل.
ولنأخذ قول كل من عبد الحميد الراضي وإبراهيم أنيس، كنائبين عن العروضيين المعاصرين المنكرين لأهمية الدائرة لعلم عروض الشعر العربي في ذاته؛ فكليهما يدعوان لإهمالها، إنما دوافعهما مختلفة. يقول إبراهيم أنيس: {والغريب في أمر الخليل ومن نحا نحوه، أنهم افترضوا للأوزان أصولاً تطورت أو تغيرت حتى صارت إلى ما رُوِيَ فعلاً في الأشعار}، ثم يتابع بذكر أمثلة لقوله عن بحر المديد والوافر والهزج والسريع والمقتضب والمضارع. (موسيقى الشعر، ص 51)
ويقول عبد الحميد الراضي: {والدوائر العروضية بإحكام نظامها ودقته، تعتبر طُرفة من طرائف ألمعِيّة الخليل وذكائه. ولكن هل من الضروري لطالب العروض أن يُلِـم بها ويعرف أسرارها، بحيث لا يتيسر له هذا العلم بدونها..؟ الجواب لا، إذ من الممكن دراسة هذا العلم بعيداً عن هذه الدوائر وألغازها، ولعله يكون عندئذ أسهل منالاً وأيسر مطلباً}. ثم راح الراضي يعدد بعض المثالب التي رأى أنها سبب صعوبتها (شرح تحفة الخليل، ص 38- 39). وكلام نازك الملائكة عن الدائرة لم يذهب بعيداً عن ما قاله عبد الحميد الراضي عنها (سايكولوجية الشعر، ص 278 وما بعدها).
أقول (أبو الطيب): الحقيقة أنّ تساؤلهم السابق (ما أدرانا أنّ العرب قد قصدت اقتطاع البحور من هذه الدوائر..؟) ليس في مكانه؛ فبراهين وجود واقع الدائرة في شعر العرب عصيّة على الإنكار. فهم إنما ينكرون فكرة الدائرة بسبب تذمّرهم من كيفية توظيف الخليل لها في نظامه فقط، فدور الدائرة باهت في نظامه، وصعب ومعقّد. فليس هناك انعكاس محسوس واضح لها في نظريته، ينبأ عن دورها المهم في فهم الإيقاع العربي، ولقرائح الشعراء. فدوائر نظام الخليل على حد وصف محمد حسّان الطيّان؛ وهو محق في ذلك، أنه على قدر ما فيها من إبداع وابتكار، لكنها لا تفيد في تيسير معرفة الوزن، ولا تُقوّي الـحِس العروضي، بل لا تكاد تسهم في ذلك؛ ووقعها على المتعلم المبتدئ الريّض، أشبه بوقع الطلاسم والمعمّيات. (إحياء العروض. مَـجمَع اللغة العربي بدمشق، مج 73، ج 3، م 8، 1998م).
فإذا كانت ماهية الدائرة الحقيقية قد غابت عن الخليل، وأنه استثمرها لخدمة نظامه وليس لخدمة عروض الشعر العربي؛ فكل هذا لا يطعن في وجود واقعها، إنما يطعن في ماهيتها التي قالها الخليل فقط. فهذا التذمر ليس مدعاة للتشكيك بوجودها، ولا بأهميتها في فهم حقيقة عروض الشعر العربي، أو في صناعة نظرية عروضية عربية شاملة ومتينة. فانظر مثلاً كيف أنّ حازم القرطاجَنّي وهو ينكر فكرة الدائرة بشراسة، ويعتبرها مِلحَة عروضية على أحسن الأحوال (منهاج البلغاء، ص 232). لكنه في عدّة مواضع من كتابه يستفيد منها، أو يؤصّل أقواله بناءً عليها..! [راجع: دراسة في التأسيس والاستدراك- تحت عنوان: (مستدرك القرطاجني في العروض، ص 260)]. وسبب هذا التناقض منه أنّ الدائرة لها وظيفة محسوسة في شعر العرب؛ ولذلك، فلا بد أن يفرض هذا الواقع نفسه على الباحث العروضي، شاء أم أبى.
فلو تجاهلنا دائرة المشتبه المثيرة للغط حتى حين، فإنّ التطابق المشاهد للمكونات الصوتية المؤلفة للسلاسل المقتطعة من الدوائر، سواء على أساس الحرف الصوتي بكلا شقيه المتحرك والساكن، أم على أساس الوحدات الصوتية التي يقول بها عروض قضاعة؛ لا يمكن أن يكون مصادفة. فالمصادفة إنما تحدث مع بحر واحد أو بحرين، لكن أن تأتي المصادفة مع ثمانية أبحر بقوالبها، عليها جُل شعر العرب، ويكون الاقتطاع منها متوافقاً مع إيقاع الدائرة بأطوال مختلفة؛ فهذا يخرجه من كونه مصادفة نهائياً. ثم يمتد هذا التطابق بينها إلى موضع الجرس نهاية السلسلة في عروض قضاعة، أو إلى موضع العروضة والضرب في نظام الخليل، فيكون تصرّف الزحاف في هذا الموضع متجانس مع تصرّفه على الأنساق في الحشو (أو الأجزاء في الحشو)، فهذه علامة ثانية تنفي كون الأمر مصادفة.
فإذا لم يوافق أحد من العروضيين على رأي الدماميني الذي صاحب عروض قضاعة من أنصاره (الغامزة/ 44)، والأستاذ خشّان من أنصاره كذلك؛ فقد لزمه أن يأتي برأي آخر يفسر لنا فيه اقتصار العرب على البحور التي استعملوها، والتي أمكن ردّها بسهولة لهذه الدوائر حصراً؛ تفسيراً منضبطاً محكماً، وليس تفسيراً اعتباطياً كتفسير القرطاجني.
أمّا قضية حضور البحور المهملة بجانب البحور المستعملة في الدوائر الإيقاعية الخمس المستعملة، فهذه القضية هي غير قضية اقتصار بحورهم المستعملة عليها. أي أنّ وجود البحور المهملة فيها لا يطعن في وجود الدائرة، إنما هو فقط يستلزم تفسيراً لسبب إثبات الخليل لها في دوائر نظامه، وتفسيراً آخر لإهمال العرب لها؛ والتفسير بعض من الماهية (راجع مختصر خريطة العقل للمؤلف).
وإذا رفض أحد من العروضيين قبول هذا الرأي دون حُجة قاطعة، فيلزمه قبول جميع احتمالات السلاسل القياسية التامة المشابهة لسلاسل العرب، في كونها أولية ووتدية وسالمة من العثرات (العثرة هي أربع خطوات أو أكثر)؛ الآتية من طريق الدوائر العربية ومن غير طريقها، والتي حصرها صاحب عروض قضاعة فبلغ عددها خمس وثلاثون سلسلة؛ على أنّ كل واحدة منها تمثّل بحراً قائماً بنفسه، لكن العرب لم تستخدم منها سوى أربعة عشر بحراً..! وهذا ما سيرفضه من لم يوافق على هذا الرأي أيضاً. فكيف يستقيم هذا الأمر، لا مع هؤلاء ولا مع أولئك..!
فالرافض لهذا الرأي ملزم بأن يأتي برأي آخر غيره، ويقدم أدلته وقرائنه عليه؛ لا أن يترك الأمر معلقاً بينَ بين. فهذه قضية لا يصح فيها الرأي بين الرأيين. فعلى ما قلناه في مختصر خريطة العقل (البند 17)، من أنّ الحكم على وجود الواقع أو على ماهيته، وإن كان ظنياً؛ يبقى فكـراً صائباً حتى يتبـين خطؤه، فإذا تبيـّن خطؤه فحينئذ فقط يـُحكم عليه بالخطأ؛ فبغير ذلك لا يستقيم العلم ولا تستقيم حركة الإنسان في الحياة الدنيا.
فكيف إذا قَـدّر صاحب عروض قضاعة فكرة وجود الدائرة بدرجة الجازم، وقدّر ماهيتها التي قالها بدرجة الظن العازم، وقدّمَ [وسوف يقدّم]، البراهين الساطعة التي تعزز درجة هذان التقديران؛ فحينها يصبح المعترض ملزماً بقبول رأي صاحب عروض قضاعة عن وجود واقعها، وعن ماهيتها التي قالها؛ طالما أنه لم يأت بما يُنقضه. وهذا ما ستناوله ضمن مقالة قادمة.