قصة المستدرِكين بحر البندول والبحر الراقص على الخليل:
الباحث العروضي/ أبو الطيّب ياسر بنُ أحمد القريـــــــني البلوي القُضاعي/ صاحب علم عروض قضاعة
(1)
قد اشرنا في مقالة لنا سابقة، بأن بحر المتدارك يسميه نظام قضاعة بحر البندول، وأن بحر الخبب يسميه نظام قضاعة بحر الراقص. وسبب منح قضاعة مسميات جديدة لهما غير ما اصطلح عليه القوم، فهذا لأسباب موضوعية شرحناها في كتابنا الأم. والمقصود بالبحر الراقص بمصطلحات نظام الخليل، هو البحر المقتصر على فعْلن ( وَ ) فعِلن [/0 /0؛ ///0] ودون مشاركة فاعلن معهما (/0 //0)؛ ويطلق عليه البعض في هذا الوقت (بحر الخبب). أمّا البحر المقتصر على فاعلن وعلى فعِلن الناتجة عن خبنها، ودون مشاركة فعْلن معهما، فهذا يطلق عليه نظام قضاعة مسمّى البندول، ويطلق عليه البعض في هذا الوقت (بحر المتدارك). (1)
(1) قد تعددت أسماء البحر الراقص في الكتب القديمة، من نحو: (الخَبـَب، الغريب، المتـّسِق، المحدَث، الركض، ركض الخيل، قطر الميزاب، دَقّ الناقوس، المتداني). أمّا المتدارَك، فأخذ هذا الاسم بظن أنّ الأخفش هو من استدرك البندول على الخليل على ما هو شائع، وهذا ظن باطل. فكيف يصح عقلياً أن يقال عن مَن صرّح بطرح الشيء، أي الخليل؛ أنه لم يستدل عليه أو أنه استُدرك عليه..!
والعارف بالعروض العربي لن يصبر ذهنه عن عدم شغله بهذين البحرين، الراقص والبندول؛ المتشابكين في كتب العروض القديمة، وفي كثير من كتب العروض الحديثة؛ تحت مسمّى الخبب والمتدارَك وأسماء أخرى. فالراقص والبندول، ومعهما جميع البحور التي احتوت كائن الوتد المفروق وكائن السبب الثقيل المتوهّمين، هي صداع المشتغلين بنظرية الخليل.
1- لا لا ، لا لا، لا لا، لا لا (خ= 8) (فعْلن، فعْلن، فعْلن، فعْلن): هذه هي الصورة الأولية القياسية للبحر الراقص، في عروض قضاعة. حيث كل خطوتين متلازمتين من بداية الإيقاع (كل سببين خفيفين)، هما نسق قائم بذاته، لكنه نسق لا عقدي؛ يدعوه نظام قضاعة بنسق العود.
2- نعمم، نعمم، نعمم، نعمم (خ= 8، ت= 12)، (فعِلن، فعِلن، فعِلن، فعِلن) : هذه صورة ثانوية مشتركة لكل من الراقص والبندول.
3- لا نعم، لا نعم، لا نعم، لا نعم (ت= 12): (فاعلن، فاعلن، فاعلن، فاعلن): هذه صورة أولية قياسية لبحر البندول.
والبندول والراقص بحران عربيان في الصميم، لكن الخليل قد طرحهما من نظامه لخطرهما المحدق على ترابط نظامه وشموليته، وليس لأيّ سبب آخر (ظن عازم). فمع أنّ مسطرة نظامه يمكنها استيعاب البندول التكافؤي النظام، من خلال التجزيء فاعلن مكرّرة أربع مرات في الشطر [لا نعم]؛ لكن بُنية نظامه لا يمكنها استيعابه إلّا بشرط غياب الراقص الخببي النظام عن الساحة كلياً (ظن جازم).
والسبب في ذلك أنّ الراقص بحر لاعُقدي، أمّا البندول فبحر عُقدي، وهما يشتبكان في الإيقاع الثانوي عند خبّ الأوتار الخببية في الراقص [أي عند تحويل (لا لا) إلى نعمم ///0]، وعند خبن كل فاعلن في البندول (فعِلن ///0 : نعمم).
أمّا والراقص حاضر في ذهن الخليل (ظن ثاقب)، وحاضرة شواهده النادرة في عصره؛ وطالما أنّ الدائرة فكرة صحيحة، وهي روح النظام العروضي العربي كما سنرى؛ فلما لم يجد الخليل طريقة مناسبة لضمهما إلى نظريته من دون أن يُخلّا ببنية نظامه العروضي؛ فلا حلّ لهما في نظامه إلّا بطرحهما منه معاً (ظن عازم). وفعلاً قد أجمعت المصادر القديمة بأنّ الخليل لم يضع البندول كبحر مهمل في دائرة المتقارب (2)، مع أنّ له مكان مستحَق فيها؛ ومع أنّ ذكر البحر المهمل ضروري في دوائر نظام الخليل وليس ترفاً كما ظن البعض.
(2) (الجامع في العروض والقوافي، ص 257، لأبي الحسن العروضي، ت/ 342 هـ). (الفصول والغايات، ص 131، 134، لأبي العلاء المعري، ت/ 449 هـ). (البارع في علم العروض، ص 208، لابن القَطّاع، ت/ 515 هـ). (المعيار، ص 81، للشنتريني، ت/ 550 هـ).
تنبيه: إذا رأيتنا في هذا في الكتاب الأم لعروض قضاعة قد أوردنا تجزيئاً للراقص بدلالة (فعْلن [لا لا]) و (فعِلن [نعمم])، فاعلَم أنّ هذا من باب التجاوز؛ فليس للراقص تجزيء في نظام الخليل أبداً. فشرط صحة الجزء في نظامه هو احتواءه على وتد واحد، كما أنّ الراقص مغاير للبندول تماماً، تأصيلاً وعلى مستوى القانون الصوتي العامل في كل منهما.
والعروضيون القدماء، وكثير من المعاصرين؛ المغرمين بالخليل ونظامه، وهو غرام مبرّر ومقدّر تماماً؛ قد آذوه بجعل الراقص في بطن البندول تحت مسمّى (المتدارك)؛ وآذوه أكثر بالتماس مكان للراقص في بنية نظامه؛ ظانين أنهم بهذا الفعل يحسنون صنيعاً، وأنهم بذلك يدافعون عن الخليل ونظريته العروضية أمام المخاصمين لها؛ فلو كان الأمر بهذه السهولة، لسبقهم الخليل العبقري إلى هذا الحل غير العبقري.
والذي دفعهم لذلك أنّ شواهد الراقص الموثّقة عن العرب المعتد بنظمهم، ورغم قلتها، تغري النفس على الاعتقاد بأنها داخلة في شعر العرب وفي النظام العروضي العربي. فبعد أن أورد أبا الحسن العروضي بيتين مخطوفين على الراقص، الأول: أَشْجاكَ تَشَتُّتُ شِعْبِ الـحَيْـ ... ـيِ فَأنتَ لَهُ أرِقٌ وَصِبُ [نعمم، نعمم، نعمم، نعمم لكلا الشطرين، خ= 8]، والثاني: زُمَّتْ إبِلٌ لِلبَينِ ضُحىً ... في غَورِ تِهامَةَ قد سَلَكوا [لا لا، نعمم، لا لا، نعمم ... لا لا، نعمم، نعمم، نعمم ، خ= 8]، قال: {**، فإن قال قائل: فما اسم هذا الباب من هذه الدائرة..؟ قيل له: لم يُـرَ الخليل ذكر هذا الباب البتّة، ونحن نسميه (الغريب). فإن قال: فهل وجدتَ منه شيئاً مروياً..؟ قيل له: أكثر من أن يُحصى في شعر المحدَثين خاصة، فأمّا القديم فنَـزرٌ قليل. فممّا قيل أنه قديم قوله: أشـجاكَ تشتّتُ **، فهذه القصيدة مشهورة ولولا الإطالة لذكرناها عن آخرها. وقوله [أي مما هو قديم]: زُمَّتْ إبِلٌ **، وليست في شهرة الأولى. فأمّا المحدَثون فقد أكثروا من هذا الوزن}. (الجامع، ص 257 - 258)