أم الخير ..والأشباح !!
وجه صبوح ، كوجه فخارية الحليب المدعم بالقشدة البلدي.بادرت أمي حين فتحت الباب بعد سماعها للجرس :
صباح الخير . ياسيدتي!
والتففنا كسرب الأفراخ الصغيرة، حول أمنا ، والفلاحة الجميلة.
إنها (أم الخير) ، وعبق الحقول المطهمة بالخصب والكفاح عبر السنين.جميلة في غير تكلف ، نظيفة بلا غلطة ، حسنة الأسلوب والصوت بلا ابتذال أو إلحاح ، أو تصنع، دقيقة منظمة في تغليف بضاعتها من الجبن الطازج ،والبيض البلدي ، والفطير الحار. إنها أم الخير، هل كان اسمها مصادفة طيبة؟! صاحبة الأرض ، التي تعطي خيرها للقلوب الخيرة ، والأيدي المناضلة من أجل الحياة الطيبة، تحت شمس أرضنا الغالية.مصر الفلاحة الماهرة تعرف كيف تخرج السمن من ضرع المأساة.
ترعى هي الأرض، والمصنع الكبير يضم زوجها وأخوتها في عنابره عمالا مهرة مدربين.
&&&
صباح الخير يا أم الخير.
كنا صغارا، وكنا نتلذذ بشرب حليب طازج، وأكل التوت ذي الألوان المتعددة، ونحمل في حقائبنا ،إلى مدارسنا، سندوتشات بيض طازج، وجبن لذيذ.
حين تم توظيف أبي في ذلك المصنع الضخم،في بداية نهضة التصنيع في أوائل الستينات من القرن العشرين، سكنا إلى جواره وسط الحقول الغناء المحاطة بالأشجار ، النابضة بالخير والخضرة والأمان.
&&&&
بعد هجرة طويلة في بلاد الرمل والزيت والشموس الحارقة، عدت لأسكن بيت أبي.
المكان ليس هو المكان ، ولا وجوه الناس هي الوجوه. فغابات الأسمنت قد غزت المكان.حتى سدت عين الشمس، فاختفت أشجار ، وترع ، وعصافير.
وبرزت تجمعات سكنية، ومولات تجارية، وعمت الأضواء ، والصخب في الأرجاء.
&&&&
على غير عادة أمها وجدتها، اللتان كانتا تزودان بيوت الحي الصغير المحيط بالمصنع الكبير القابع في قلب الحقول،بمنتجاتهما من ألبان وخضروات، بدت حفيدة ( أم الخير) مهمومة منكسرة، شاحبة الوجه.
كما كان منتجها من الألبان شحيحا، وخضرواتها تميل إلى الذبول!!
وحين ساقني فضولي لسؤالها، ردت بأدب واقتضاب، حامدة ربها على كل شيء.لكنني بكثير اهتمام، ورغبة في مساعدتها لو كان في إمكاني، أثرت سؤالي بطريقة أخرى.
- خير يا أم الخير.هكذا ناديتها تيمنا بأزمان الخير.
- أنا في أزمة يا أستاذ ، ادع لي ربنا يفكها عني.
- خير ان شاء الله . ربنا كبير.
- حضرتك عارف الأرض قسمت بيننا نحن الأخوة والأخوات. ولم تعد تجيب همها.كما لم تعد تغطي مصاريفها.
- (لم أشأ التدخل في الحديث، تاركا إياها كي تنفس عن صدرها هما يبدو ثقيلا)
- وعندي ابني البكر، حصل على دبلوم متوسط، وهو الآن بلا عمل.
- خفت عليه من الشباب الفاسدين المحيطين. ففكرت في مساعدته للسفر للخارج.
- وكانت تلك رغبته ، واطمأننت أن في صحبته بعض الأصدقاء المخلصين. وعندما ألح علي، دبرت له مبلغا كبيرا من حصيلة بعض المزروعات .. وبيع مشغولاتي الذهبية، وبعضها استندنته بإيصالات أمانة.
- ودفعنا المال لصاحب شركة سياحة وسفر.. ليدبر له فيزا عمل في دولة أجنبية.
- وفي مطار القاهرة، تم القبض على الشباب لأن التأشيرات مزورة.
- وعندما ذهبنا لصاحب الشركة في مقرها بالمدينة. كان المقر مغلقا، حيث تم القبض عليه ، وفق شكاوى عديدة قد قدمت ضده ..
- في الحقيقة لم أكن أملك سوى بضع كلمات المواساة والتخفيف والدعاء بانفراج الأزمة.
- $$$
- لاحظتها من شرفة منزلي ، حاملة سطل الحليب الفارغ، في طريقها إلى مسكنها بعزبة خليل ، عبر طريق زراعي, خلف سور المصنع الذي كان في الماضي كبيرا، يعج كخلية نحل بعشرات الآلاف من العمال، فقد تم تصفيته منذ سنوات، وبيع نصف أرضه لمستثمر حوله إلى صالات أفراح ومقاه ، وتحولت عنابر المصنع إلى أطلال تسكنها الآلات الصدئة، والأشباح.