حجاب أبو الهلاهيل
عندما كانت تلك الشلة تلتئم في ذلك المقهى ، كان صاحبه يمني نفسه بإيراد جزيل؛ ،كان
( حجاب أبو الهلاهيل)، هكذا كان اسمه، صاحب فلسفة يرددها بين الحين والحين،:
(الدنيا أصبحت حارة سد، والزحام شديد .. وكلكم حاطين بوزكم في بوز بعض .. ىبعدوا شوية بعيد علشان النفس ..والوباء ... يا بهايم)
كان على رأس مجموعة من الظرفاء المجانين، يشعلون المكان بالضحكات والتعليقات الساخرة؛ فيتكاثر الرواد للاستمتاع بجو الفكاهة والسخرية، على صوت أحجار الدومينو وأقراص الطاولة، وصيحات الجرسون، وعبق دخان الشيشة.
شاشة حية بالعبث الانساني، والوجوه، والأقنعة، وصوت
( الست) يتناهى من ركن في المقهى لكلمات أغنية شهيرة:
(حسيبك للزمن .)
$$$$
في ذلك المقهى في تلك القرية النائية، يرتاده مجموعة من سكانها من موظفي الحكومة وبعض معلمي المدارس المغتربين والفلاحون،إذ وجدوا في المكان فسحة للترفيه، فهم لا يغيبون عنه سوى للعمل أو نومة القيلولة، ليتقاطروا عبر الدروب نحو منتداهم الساخر ،لدى رجوع الفلاحين من حقولهم عند المساء ،تتبعهم جواميس وأبقار، وقطعان من المعيز والخراف.
$$$$
كان المكان خلية مشتعلة ، بكل سخرية البسطاء ،وهمومهم ،ومعاناتهم ، وأسرارهم ،وبل وخفايا حياتهم ، وحسناتهم وخطاياهم.
لم يكن (حجاب أبو الهلاهيل)، الصراف بالجمعية الزراعية، من أهل القرية، بل كان موظفا منتدبا من المدينة الكبيرة، فاستأجر بيتا ريفيا من الطين ليسكنه، ولم يعلم له أحد من أسرة ، وإن سألوه عن حياته الشخصية،كان يراوغ، أو يرد باقتضاب ،موحيا لمن حوله ،أنه مقطوع من شجرة.غير أنه كان يغيب في عطلة شهرية ليومين أو ثلاث ، ثم يعود إلى عمله نشيطا ، و يلحق بجلسته الحبيبة في ذلك المقهى. إذ كان سيد القعدة، ومايسترو الأحداث التي تبدأ؛ بعد قدومه بقليل، يسبقه كرش محترم،ورأس مستديرة صلعاء ،يحملها جسد قصير ينتهي بمؤخرة هائلة.
وما إن يلقي بجسده ذاك على مقعد من مقاعد المقهى المتهالكة، حتى يطلق لهاثا وأنفاسا مقطوعة، جراء مسيرته غير الطويلة من منزله قرب الطاحونة، حتى المقهي في الشارع الغربي من القرية.
المقعد يئن تحته ، ويكاد يختفي . وكم من مقعد انهار وسقط به إلى أرضية المقهى الرطبة.
لم يكن (حجاب أبو الهلاهيل) يلتفت كثيرا لكلام عرفان :
وحياتك يا أستاذ حجاب ، ما تزعل من كلامي، هات لك كرسي متين من بيتكم،صاحب القهوة بيدفعني تمنه، أمانة يا شيخ ما تقطع عيشي.
كان حجاب يسخر منه ، ويلمزه بشيء من سخريته المحترفة:
أنت كمان بقالك وظيفة ، يا كلاف الحمير يا معفن ؟ غور يالا هات الحلبة.
هكذا كانت طريقته ، وأسلوبه في الرد على أي حديث يدور بينه وبين المحيطين به.
إذ مضت به سنوات خمس من المخالطة والمعاملات، وكان اجتماعيا حكاءا،زلق اللسان، خفيف الروح، فانبهروا به،وصار واحدا منهم.
كانت قفشاته تنطلق لتصيب الجميع من حوله، فتعلو القهقهات والضحكات.
كانت جلسته لأولئك البشر كمخدر أدمنوه، يجدون عنده متعتهم الضاحكة، ورغم ذلك ،كانت تلحقهم منه الغمزات الموجعة، وكان لسكوتهم عنها سركبير.
تلك التعليقات ،التي عادة ما كانت تمس أسرارهم الشخصية، وخفاياهم العائلية،وأحداثهم المنزلية،التي يعرفها عنهم؛ ربما بحكم طيبتهم، أو سذاجتهم، أو طول عشرته بهم ، وثقتهم فيه، إذ كانوا يطمئنون له.
&&&&
- (واد يا عويس هي مراتك لسة بتقفل بابها ، وتنيمك في الزريبة يا وله؟)
كان يلقي بالكلام على عواهنه، وصدره يترجرج مرتفعا منخفضا في ضحكة هازئة.
وهو يلقي بحجر الدومينو ، ليفرقع صوته في أرجاء المكان.نافخا دخانه شيشته في وجه محدثه!
أستاذ الابتدائي يا متنور، العب العب،يا عبدون .. إنت لسة عينيك بتزوغ على البنات الصغيرات في الفصل يا خسيس.)
ها ها ها ها .. وتعلوا القهقهات المدوية.
(جهار يك ، إنت بتقرص ياض يا فتوح. يا حرامي ... هي دي كمان غويشة مراتك حتسرقها ؟؟
- ها ها ها ها ..).
-
(طارت منك العشرة يا حلو ... اللي بعده.)
(ابقى اقفل باب أوضتك بالمفتاح ليلة الخميس، يا عرفان. أحسن الواد ابنك يعملها ويطب عليكم تاني.
- ها ها ها ..
غور هات كمان قهوة مضبوط.)
تنطلق ضحكات المحيطين ، ولم يكن أحد منهم يجروء على مخالفته أو الاعتراض عليه.
في جلسة عرفية جمعته بهم يوما ما، تجرأ مؤذن المسجد الشيخ (سمحان) منبها إياه بخطورة السخرية من الناس.
فبادره حجاب أبو الهلاهيل ساخرا:
(ما بقى إلا أنت يا شيخ كفتة. خلينا ساكتين أحسن. فبلغ سمحان لسانه.)
واعتاد الجميع بلع ألسنتهم ،كي لا يلدغهم (حجاب أبو الهلاهيل)، بضربة من لسانه،أو قفشة بارعة ، أو نكتة لاذعة.
فقط يتلمسون أي حرف يخرج من فمه كي يقهقهوا ببلاهة.
رغم أن ( حجاب أبو الهلاهيل) ذات نفسه ،اسما وكسما. ورسما،لم يك في مأمن من أي السخرية، إذ كان هدفا رائعا لكل تعد وتنمر، إلا أن أحدا منهم، لم يكن ليجروء أن يخوض فيه ويناطحه كلمة بكلمة.
&&&
هو يعرف كل الوجوه بالقرية هنا؛ إما في مواجهته وهو خلف شباك صرف الكيماوي ، أو بالمقهى وليالي السهر، أو في المجالس العرفية، ومجالس العزاءأو في سوق الثلاثاء، يعرفها جيدا ،و يعلم أسرارها. إنها مجرد أقنعة، وهو مطلع تماما على البلاوي التي خلفها.
.
غير أنه في تلك الأمسية، على مقعد قريب من جلستهم الساخرة، كان هناك وجه غريب ، لم يسبق له أن رآه من قبل.
جلس حجاب منتفخا كملك وسط عصابته من الساخرين، يردد فلسفته البائسة:
(الدنيا حارة سد ... مزدحمة بالوجوه، الناس تتنفس الهواء من أنوف بعضهم البعض .. إياكم والوباء ... كان يمد صوته ويدير وجهه غامزا نحو الوجه القادم الجديد .. مستفزا إياه كي يجره للحوار.
(جاتكو البلا .. كل واحد حاطط بوزه في بوز أخوه ... النفس .. النفس ..والزحام شديد .. والمشي صعيب.)
_ طب أنت رأيك نعمل ايه مع الدنيا دي يا حجاب أفندي ؟؟!! قالوها بصوت واحد منتظرين منه نكتة تفجر المكان بالقهقهات.
أنا عن نفسي ...بودي وشي للحيط ..عشان ما اشمش ريحتكم، يا حواش.
علت القهقهات في بلاهة...
ثم ساد الصمت فجأة ، على صوت الوجه الجديد :
بقول لك إيه يا أخينا ،
ما تديش وشك في الزحام ، للحيطة كتير.. وإلا حيلعبوا لك في المؤخرة.
صمت قليل ... ثم انفجر المقهى بالقهقهات والتعليقات الصاخبة. على حين بهت (حجاب أبو الهلاهيل) ،و لم ينطق حرفا واحدا، بل جحطت عيناه ، وبدت منه ارتعاشة مرعبة،وسقط من مقعده فاقد النطق.
&&&&
في طريق العودة من جنازته، تهامس المشيعون؛ بأن الحكومة قد اكتشفت تزويرا كبيرا، في كشوف صرف السماد في تلك الجمعية الزراعية بالقرية النائية, التي كان قد انتدب للعمل فيها عقابا له، لسوء سلوكه الوظيفي.