الياسمين.
من مجموعتي القصصية
انكسارات أمير جنوبي
(كاريزما للنشر)
م. نديم
حملت حقيبة يد صغيرة، بها سجائري التي أقلعت عن تدخينها مؤخرا بسبب الكورونا، وبالقطع ولاعة فاخرة. لكنني لا أدري سر احتفاظي بهما.
وبها ذلك الساحر ( المحمول) ، الذي لو تخيلت وجوده معي وأنا في سن طفولتي لاتهمت رأسي بالجنون. ذلك الجهاز العبقري الذي تشعر بالاطمئنان معه طالما يعمل ويرن ويتصل.
وما أسرع ما ينهشك القلق ، ويركبك الفزع، بمجرد رؤية مقياس شحن الطاقة قد اقترب من الصفر ولو بقيد أنمله؛ ساعتها لابد أن تسارع لمكان تتوافر فيه خاصية استعادة الطاقة.
وبذات الحقيبة الصغيرة التي هي تطور حديث للجراب أو الكيس، مفاتيح الدار، وجراب نظارة يحوي إحداهما للقراءة.إذ أن الشمسية تستقر بالتأكيد على أرنبة أنفي اثناء سيري بالشارع.
أما في جيب سترتي الأيسر ، فوق مقر القلب النابض، تستقر في أمان حافظة نقودي، وبطاقات هويتي وائتماني.
حقيبة ذات يد، أتشبث بها في قلق تحت إبطي ، وسط مدينة صارت مرتعا للزحام والغبار والصخب.متحفزا من أن تخطفها يد مترجل أو راكب لدراجة أو موتوسيكل و توكتوك، أو مجرد صبي شوارعي يتلفت من حولك في ارتياب .
في الصبح ، تخيلوا أنني ارتاد أماكن طفولتي التي اعتدتها صغيرا؛ حيث تنتشر شجيرات الياسمين فتذيع أسرار الأريج في فضاء المدينة.
أسلك ذات الطريق من بيتنا إلى مدرستي الابتدائية التي اختفت تماما وحل مكانها بنايات ودكاكين كثيرة.اروح وأجيء على ذات الأرصفة، حيث تلاشت بائعة الحلوى، ومكتبة الأقلام والكراريس والألوان ..والمراجيح.
تعثرت في أحجار الطريق المسكونة بالحفر والطين والأحجار، والتوى كاحلي مرتين.في دروب كانت أكثر حنانا وأقل ضررا على قدميي الصغيرتين وأنا طفل غرير وصبي نزق.
وفي المساء، أرتدي ملابسي بأناقة وتعطر؛ وأبدأ مسيرتي من ميدان الحديقة الرئيسية الذي ما زال يحمل شيئا من عبق ماض ملون حالم وجميل.
في موعدنا الأسبوعي، تبدأ من هنا مسيرة اللقاء ؛ تتأبط ذراعها ذراعي ، أشعر بلينها ودفء يسري بيننا ، وأمان يحوطنا ؛ ونحن نتهامس في فرح ، عيوننا متألقة بالحب ؛ ونبضاتنا متراقصة بالسرور. ندور في مسيرتنا الأسبوعية الحميمة؛ لتنتهي قبيل منتصف الليل بساعتين ؛ إذ أوصلها قريبا من باب دارها المحاط بشجيرات الياسمين. لا أغادر المكان حتى تطل من شرفتها ؛ فاطمئن .. وأنسل تاركا المكان ثملا بالحكايات، منتشيا بالهمسات، ممنيا النفس بلقاء جديد.
كلت قدماي وتعب وجداني ، كل الشوارع صاخبة، أفتش في الوجوه العابرة فلا أجدها. كما أن بيتها العتيق لم يعد هناك؛ إذ احتلت الشوارع هياكل أسمنتية عالية ومخيفة..ولم تعد الشجيرات الحبيبة هناك؛ وغاب عن فضاء المدينة أريج الياسمين.
تأكدت من وجود حقيبتي تحت إبطي، وتحسست حافظتي في جيب سترتي الداخلي. وانا أقاوم السقوط جراء حفريات تملأ الشارع شبه المظلم.
هل كان علي أن أقاوم ,أو استسلم لأمر أولئك الأشرار ، الذين استوقفوني في ظلمة ذلك المكان الكئيب؟
سلمت كل ما أملك، ومضيت مرتبك الخطأ، متحسسا رقبتي، التي نجت للتو من ( غز) سكين بلطجي مخمور!