( 18 )
ومع أن سبك الخليل لبنيان دائرة المشتبه كدائرة سباعية الأجزاء، محقونة بكائن الوتد المفروق، لم يمر بدون تضحيات وثغرات كما رأينا؛ لكن هذا أفضل ما استطاع الخليل صنعه في ظل الأساسات التي انطلق منها. فبعد أن حقن الخليل عُقدة العنقاء بالوتد المفروق، قد تم له إخضاع دائرة المشتبه لمقياس مقدار الكتلة كما رأينا، حتى لو نتج عن هذا ثغرات؛ فالذي هو مدار اهتمام الخليل الرئيس بهذا الصنيع، أنه قد ظل شرط صحة الجزء حاضراً في السلاسل القياسية التي ستفرزها دائرة المشتبه أيضاً، أي احتواءه على وتد واحد وسببين على الأكثر؛ فهذا ما يحقق الترابط في نظامه في ظل أن التقطيع التساعي سيمحق هذا الترابط كما قلنا. فالوتد المفروق هو ما سيحضر في بعض أجزاء هذه الدائرة بدل الوتد المجموع، أي في الأجزاء الثلاثة الذي وقعت تحت مطرقة الوتد المفروق المغروس في دائرة المشتبه.
فلأجل هذا السر الدفين الذي قلناه المتعلّق بالجزء أسّ نظامه، الذي جعله يحتفظ بشرط صحته على طول الخط في كل دوائر نظامه بلا استثناء؛ فهذا ما جعل نظامه يدور حول معيار ثابت أمّن له الترابط بقوة، أي الوتد الواحد في الجزء. وهو نفس السر الذي أفرز ظاهرة التقليب مصادفة في كل نظام الخليل، هذه الظاهرة التي فُـتن بهما البعض كما رأينا.
ولأجل أن الخليل قد استوعب في نظامه 98 % من قوالب الشعر التي وردت عن العرب، فهذا ما جعل نظامه محققاً لصفة الشمولية. ولأجل أن الخليل قد حرص بشدة على إقفال ثغرات نظامه ما أمكنه ذلك كما قلنا، فهذا ما جعل نظامه منيعاً في وجه محاولات اختراقه وتحطيمه. فالثغرات التي في نظام الخليل المترابط الشامل، إنما سيراها الباحث المتعمّق عند النظر لنظامه من خارجه كما فعل أبو الطيب؛ أمّا إذا نظر إليها من داخل نظامه فهي متوافقة تماماً مع أساسات نظامه.
فلأجل كل ذلك، وليس لأجل عامل الرياضيات المتوهّم في نظرية الخليل، ولا لأجل عقلية الخليل الرياضية على ما توهم البعض، فقد تمتع نظام الخليل بالترابط والشمولية، الذين هما أهم صفتين في النظرية المتينة. ونتيجة لذلك لم يستطع احد أن يأتي بنظرية عروضية عربية أقوى من نظرية الخليل طالما أنهم ظلوا أسارى لأساسات نظامه. الأمر الذي جعل نظريته هي المهيمنة باستحقاق على الساحة العروضية طيلة 1300 سنة تقريباً؛ حتى جاءت قضاعة بنظريتها في هذا الزمن، والتي خرجت فيها على أساسات نظرية الخليل، فتفوقت عليها بجدارة على ما أزعم، ولله الحمد والمنّة.
معلومة: أوّل من ألمحَ لهذا السر الدفين الذي قلناه، هو ابن السرّاج (ت/ 316 هـ) بعد تـمعّنه في دوائر الخليل، لكنه لم يدرك السبب الحقيقي الكامن وراءه، أي تلك الأمور الثلاثة معاً. فقد قال: {فالدائرة الأولى [دائرة الطويل]، تُكال وتوزن بسبب مضموم إلى وتد، وبسببين مجموعين مع وتد؛ وإنما يُفصَل بين الجنسين اللذين في دائرة واحدة، بالتقديم في الأوتاد والأسباب والتأخير، **. والدائرة الثانية [دائرة الوافر]، يكيلها ويزنها وتد وفاصلة؛ وإنما يختلف الوافر والكامل بتقديم الوتد وتأخيره، **} الخ. (العروض لابن السراج، ص 295). أقول (أبو الطيب): فلا يمكن تصوّر أنّ هذه الملاحظة الدقيقة قد انتبه لها ابن السرّاج، دون أن يدرك السبب الكامن وراء حصولها؛ وتفوت على الخليل العبقري..! فدوائر نظامه قد صُنعت على هذا الأساس الذي قلناه (ظن عازم)، ليستمد الجزء شرعيته منها بعد ذلك.
فحتى تستوعب أنّ هذه هي حقيقة ترابط وشمولية نظام الخليل، دون غباش في الرؤية ودون أوهام الرياضيات؛ انظر بعينَـيّ صانع النظام وليس بعينَـيّ مستخدِم النظام. وأبو الطيب القضاعي لكونه صنع نظاماً عروضياً قوياً مترابطاً شاملاً، قهر به ترابط وشمولية نظام الخليل؛ فهو الأقدر من غيره على بيان ذلك كما قلنا بداية هذه المقالة، فلا يفل الحديد إلّا الحديد..! فالظن بأنّ الخليل قد فاته كل ما قلناه عن طريقة تفكيره خلال مخاض صنع نظامه، لهو اتهام لعبقريته التي أنا عليها من أول الشاهدين. فقد أنبأتنا صفحات الكتاب الأم لعروض قضاعة عن طريقة تفكير الخليل المميزة والعبقرية التي لا علاقة لها بالرياضيات. والذي أكد لنا ذلك توثيقياً هو تلميذه الـنّضر بن شُـمَيل على ما قدّمنا.
وعلى ما قلناه في رد على مشاركة الأستاذ سليمان أبو ستة في الفيسبوك، التي ألحقناها كمشاركة إضافية نهاية الجزء الأول من هذه المقالة، والتي لها علاقة بكلامنا في الفقرات السابقة؛ أنه مع جواز انتقاد النظرية المقدّرة بدرجة ظن مقبولة إلى متوسطة، كنظرية الخليل، وذلك ببيان أوجه قصورها وثغراتها، وبدافع قوي من صعوبة استخدام مسطرة نظرية الخليل في قياس الشعر عروضياً؛ لكن ذلك ليس مبرّراً عقلياً كافياً للدعوة إلى نبذها وتجاهلها، في ظل عدم توافر نظرية بديلة أقوى منها تسدّ محلها في الساحة العروضية. فترابط مكونات النظرية وشموليتها للشيء المبحوث، هو أحد أهم ركائز قوة النظرية، ونظرية الخليل محقّقة لكلا الأمرين، حتى لو شابها بعض القصور في ذلك.
فالداعي لنبذ النظرية المحقّقة لذلك، ملزمٌ عقلياً واجتماعياً بإيجاد نظرية بديلة عنها أقوى منها. فإذا لم يقدر الناقد على ذلك، فعليه الخضوع لها تماماً أو على مضض؛ أو عليه الخضوع لها مع بعض التعديل الذي يراه ضرورياً عليها، والذي بالتأكيد لن يمس هذا التعديل نواتها. فإذا لم يمضِ الحال على هذا الأساس العقلي السليم، لفرط أمر العلوم التي أكثرها يقوم على الظن. وهذا فعلاً هو ما حصل مع نظرية الخليل، فمع تذمرهم منها لأكثر من سبب، حتى مع وجود شُبهة الرياضيات المتوهّمة فيها، لكنهم لم يستطيعوا أن يأتوا بنظرية أقوى من نظريته.
وهكذا يتأكد لنا بأن الجزء هو أسّ منهج الخليل ومنتهاه، والدائرة هي روح نظامه؛ وكل من يقفز عن ذلك فقد خرج على منهج الخليل حتى لو ادعى عكس ذلك. ومن الأدلة القوية على ذلك غير دليل السر الدفين، هي فكرة المجزوء في نظامه المربوطة بالدائرة. فهذه الفكرة إنما اخترعها الخليل ليحافظ بها على فكرة الجزء من الانهيار..؟
فما هي هذه العلة الجهنمية التي ستحذف جزءاً كاملاً، بل قد تتخطاه لتحذف وحدات من الجزء الذي قبله..! ففي هذا ليس فقط تهديد لترابط ومتانة مبحث العلة في نظامه المركّب بدوره على فكرة الجزء؛ بل فيه تهديد خطير لفكرة الجزء نفسها، ما يهدد بانهيارها وانهيار نظامه بانهيارها. لكن بحضور فكرة المجزوء فهذا سيحافظ على فكرة الجزء من الانهيار، لأنها فكرة المجزوء هي إحدى طرق نظامه المهمة في التعبير عن مقدار النقص المجحف من طول الشطر، فهي سوف تستوعب هذا النقص الكبير الذي بمقدار جزء كامل، بل وستأمّن الإنقاص من الطول أكثر من طول الجزء، فالعلل في نظام الخليل تدخل على الصورة التامة وعلى الصورة المجزوءة على السواء.
ولو لم تحضر فكرة المجزوء، لكان الضرب المرفّل في الكامل المجزوء، مستحقاً لتفعيلة تساعية الحروف..! فعلة الترفيل في نظام الخليل التي تضيف سبباً خفيفاً على الجزء، هي أخطر علةّ على نظامه، اضطر الخليل لها اضطراراً ملحّـاً، ولذلك تحاشى الخليل تكرار استعمالها مع أنه قد وُجِد لها أمكنة في نظامه لكن الخليل عدَل عنها تجنباً لها لخطورتها. فهي علة خطيرة لأنها ستؤدي لتشابك الجزء الخماسي بالسباعي فيما لو أضيفت للجزء الخماسي، وستؤدي لأن تطل التفعيلة التساعية برأسها فيما لو أضيفت للجزء السباعي. ونظام الخليل لن ينعم بالترابط وصفة الشمولية إلّا إذا اقتصرَ على الجزء السباعي والخماسي فقط، ودون تشابك بينهما كما قلنا.
وما ذكرناه هنا عن الكيفية التي أقامة الخليل بها نظامه فكان مترابطاً شاملاً، المسنود ببراهين وأدلة قوية مترابطة، لهو نسفٌ لادعاء كل من ظن أن الخليل أقام نظامه على أساس رياضي، بل هو نسف لفكرة أن للرياضيات علاقة بأبحاث اللغة والعروض من جذورها.
إضافة: بسبب أنّ دائرة المشتبه قد صنعها الخليل على عينه كما رأينا، فإن ظاهرة التماثل بين الأجزاء في صور البحور القياسية في دائرة المشتبه، قد ظهرت فيها ظاهرة التماثل مشوّهة؛ هذه الظاهرة التي يسميها محمد العلمي "العلاقة التكوينية". (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص 121). وهذا بعكس ظهورها واضحة - وبالمصادفة البحتة- في الدوائر غير العنقاوية، بسبب السر الدفين الذي حافظ على لازمة الوتد المجموع فيها.
والزمخشري (ت/ 538 هـ) هو أوّل من تحدث عن ظاهرة التماثل على ما ألمحنا في الجزء الأول من هذه المقالة، فقد قال: {فهذه هي الأصول التي بنيت أوزان العرب عن آخرها عليها [أي الأجزاء الثمانية لفظاً، العشرة حكماً]، لا يشذ منها شيء عنها. ولكل واحد من هذه الأصول فروع تتشعب منه [أي ما يجري عليها بالزحاف فيكون لها صورة أخرى]، **}. (القسطاس ص 30). وفي صفحة ص 128 وهو الشاهد لنا، يقول: {وقد سلكوا في تركيب بحور الشعر من هذه الأجزاء الثمانية أربعة طرق: أحدها أنهم كرّروا الجزء الواحد بعينه كما هو، من غير أن يصحبوه غيره. وذلك في جميعها ما خلا واحدا وهو (مفعولات)، فـ (فعولن) ثمان مرات يسمى المتقارب. ***}. وبخصوص ظاهرة التماثل في بحور دائرة البسيط، قال: {والثالث: أنهم أَزْوَجوا بين خماسي وسباعي، **}.
وقد حاول الزمخشري أن يطبق ظاهرة التماثل على بحور دائرة المشتبه بطريقة فـجّة، هذه الدائرة التي صنعها الخليل على عينه كما رأينا. قال: {والثاني: أنهم أزوجوا بين جزأين، كأنّ كل واحد منهما هو الآخر. وذلك إزواجهم بين (مستفعلن) و(مفعولات)، لأنهما على نسق واحد في تقدم السببين، وتأخر الوتد؛ لا فرق بينهما إلّا أنّ وتد ذلك مجموع، ووتد هذا مفروق. وهذا بمنزلة تكريرهم الجزء الواحد كما هو. فـ (مفعولات) وإن فارق سائر الأجزاء في أن لم يكرر وحده، فقد كـرّر مع جزء لا يكاد يباينه. فـ (مستفعلن مستفعلن مفعولات) مرتين يسمّى السريع. و(مستفعلن مفعولات مستفعلن) مرتين يسمّى المنسرح. **}. (القسطاس: ص 47 - 50).
تبرير: قد استغرب بعض القوم من كون الكتاب الأم لعروض قضاعة يبلغ حجمه 830 صفحة..! وبسبب حجم الخط الصغير نسبياً في الكتاب الأم، فهو حجم مرجح للارتفاع فوق ذلك إذا طبعته دار نشر (قريباً بإذن الله). فعلى ضوء عمق الأفكار المطروحة في هذه المقالة بجزأيها، لعل هذا الاستغراب سيزول. فلعلك قد أدركت على ضوء ذلك أنّ أبا الطيب قد استوعب نظام الخليل كما لم يفعل ذلك احد قبله، فلم أترك شاردة ولا واردة تخالف أقوال صاحب عروض قضاعة، صوتياً وعروضياً؛ إلّا وناقشناها في الكتاب الأم. وقد استوعبت فيه أهم الآراء المطروحة في الساحة الصوتية والعروضية. فالكتاب الأم لعروض قضاعة هو مرجع جامعي للمتخصصين فقط، فلكل علم مرجع ومراجع. أمّا كتاب (المنتج الجاهز لعروض قضاعة) المتاح على الانترنت (250 صفحة)، فهو مدخل للكتاب الأم فقط، الهدف منه هو اطلاع العامة وأهل الاختصاص على حقيقة نظرية قضاعة التي قهرت نظرية الخليل وقهرت مقطع الأصواتيين.
*******
انتهت هذه المقالة والحمد الله رب العالمين. والتي هي الجزء الثاني المكـمّـل لمقالتنا الأولى التي بعنوان (هل عقلية الخليل عقلية رياضية..؟) في رابطة الواحة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
أبو الطيّب ياسر بن احمد القريـــــــني البلوي القُضاعي/ صاحب علم عروض قضاعة
18- 4 - 2023