موضوع أكثر من رائع، ويا ليتك تضمه معا في ملف واحد منسق، كملف وورد منسق، ليمكننا الاحتفاظ به.
واسمح لي أن اضيف هذا التعقيب على ما سطره أهل العروض في كتبهم ومقالاتهم. فقد جاء في "المعيار في أوزان الأشعار، والكافي في علم القوافي [المعيار]. تحقيق: محمد رضوان الداية. دار الأنوار - بيروت، ط 1، 1968 م. للشنتريني [السرّاج الشنتريني] (أبو بكر محمد بن عبد الملك السرّاج الأندلسي الشنتريني النحَوِيّ، ت 550 هـ)، تعقيباً منه على قالب مستدرَك على الخليل في الوافر، شاهده عليه هو قول العلاء بن منهال الغنوي:
فليتَ أبا شَرِيكٍ كانَ حيّاً .... فيَقصُرَ حينَ يَنصُرَهُ شَرِيكْ
مفاعلَتن مفاعلْتن مفاعلْ ... مفاعلَتن مفاعلَتن مفاعْ
نعم، نعمم نعم، لا لا نعم، لا... نعم، نعمم نعم، نعمم نعم Ø
ويَترُكَ مِن تَدَرُّئِهِ علَينا ... إذا قلنا لهُ هذا أبُوكْ
نعم، نعمم نعم، نعمم نعم، لا ... نعم، لا لا نعم، لا لا نعم Ø
أقول: فبينما أنه يمكن وصف عروضة هذا القالب في نظام الخليل، فإنّ ضربه مستحيل الوصف باستعمال مصطلحات نظام الخليل الحالية، فلم يخترع الخليل علة تحوّل مفاعلَتن //0 ///0 الى مفاعْ (//00).
وهنا يتبين خطأ الشنتريني في وصفه لهذا القالب المستدرَك من خلال أدوات نظام الخليل، عندما قال أنه شذّ في ضربه الأول القَصْر (المعيار في أوزان الأشعار، ص 44). فهذا توصيف خاطئ بالنظر لبنية نظام الخليل.
فعلة القصر تحذف ساكن السبب الخفيف آخر الجزء وتسكّن ما قبله؛ وعند تطبيقها على جزء الوافر (مفاعلَـتن)، المنتهي بسبب خفيف [وَهْمي]؛ فهذا سيوصلنا إلى مفاعلَـتْ [نعم نعم] وليس إلى مفاعْ ( نعم Ø)..! فحتى توصلنا علة القصر إلى مفاعْ ( نعم Ø)، فهذا لا يكون إلّا لو كان الضرب هو فاعلاتن أو فعولن حصراً. لكن جزء الوافر منتهي بـ مفاعلَتن كصورة قياسية بحسب تقرير الخليل، والصورة القياسية هي منطلق تطبيق العلة في نظام الخليل العروضي.
وأظن أنّ الشنتريني قد غلب على ذهنه القول المتداول في الكتب وعلى ألسن العروضيين، عن قالب الوافر الاول الأكثر شيوعاً من بين قوالب الوافر، بأنّ عروضته وضربه هي (فعولن). فأجرى علة القصر على (فعولن) دون العودة للأصل القياسي التام منطلق عمل العلة، أي العودة إلى (مفاعلَـتن) السالمة.
وقد دار جدال على هذا القالب بين أتباع نظام الخليل، لم يتمحور حول كونه موافق لنظام العرب أم غير موافق، فنظام الخليل يعجز عن البَتّ في ذلك كما يقول صاحب هلم عروض قضاعة؛ إنما تمـحور النقاش عنه حول هل بُني على الإطلاق أم على الوقف..؟ وهل كان بناءه على الوقف كان لتجنّب الإقواء أم لا..؟
فلو بُني على الإطلاق فهذا معناه زيادة سبب حفيف للعجز [** سِواهُ: ** //0 /0]، وبذلك لن يَعود قالباً مستدركاً على الخليل، إنما يكون هو النوع الأول من الوافر. فكما ترى، فكل هذا الجدل إنما هو محاولتهم لإرجاعه لنظام الخليل، حتى أنساهم ذلك أن يناقشوا هل له مكان في نظام الخليل فيما لو بُني على الوقف حقاً أم لا؛ ومحمد العَلمي هو احدهم. (العروض والقافية- دراسة في التأسيس والاستدراك ص 197-198).
وهذا القالب ليس شاذاً كما ادعى الشنتريني، فليس مستغرباً أن ينتج هذا القالب عن قريحة العرب، فهو يسير على القواعد التي سارت قرائحهم عليها. والقرينة المؤكِّدة لذلك، أنّ على هذا القالب نظم موثق للبريق الهذلي (مخضرم)، كما أن هناك قطعة ثانية على نفس هذا القالب لزياد الأعجم (أموي)، مطلعها (ألَمْ تَرَ أنَّـنـِي وَتَّـرْتُ قَوسِي ... لِأبْقَعَ مِن كِلابِ بنِي تَمِيمْ)، (من قصيدة عدّت ثمانية أبيات، ديوانه: ص 100).
قال البريق الهذلي (مخضرم) - (من قصيدة عدّت 16 بيت، شرح أشعار الهُذَليين، ص 756):
رمَيْتُ بِثابتٍ مِن ذِي نُمارٍ .... وأَردَفَ صاحِبانِ لَهُ سِواهْ
مفاعلَتن مفاعلْتن مفاعلْ ... مفاعلَتن مفاعلَتن مفاعْ
نعم، نعمم نعم، لا لا نعم، لا .... نعم، نعمم نعم، نعمم نعم Ø
فأغْرى صاحِبَيهِ فقُلتُ مَهلاً ... فإنّ الموتَ يَأتِي مَن أتاهْ
نعم، لا لا نعم، نعمم نعم، لا نعم، لا لا نعم، لا لا نعم
فأوْمَأْتُ الكِنانَةَ إنّ فيها ... مَعابِلَ كَالجَحِيمِ لَها لَظاهْ
نعم، لا لا نعم، نعمم نعم، لا نعم، نعمم نعم، نعمم نعم
ومِنكُمْ مَيِّتٌ قَبلِي فَأبقُوا ... على أدنى الثَّلاثَةِ مَن نَعاهْ
نعم، لا لا نعم، لا لا نعم، لا نعم، لا لا نعم، نعمم نعم
تفضل بقبول فائق التقدير لجهدك العظيم هذا.
وانتهز الفرصة لدعوتك للاطلاع على نظرية قضاعة "علم عروض قضاعة"، التي تفوقت على نظرية الخليل بأشواط. فالخليل قد أقام نظامه العروضي على قدر ما وصل له من قوالب شعر العرب؛ وهذه القوالب هي ما شكلّت كيان نظامه، النواة وغلافها؛ بحيث انه إذا استُدرك قالب على نظامه من العرب المعتد بنظمهم، ولم يكن له مكان في نظامه، تخلخل نظامه وصنّف هذا القالب بأنه من الشواذ ظلماً. أمّا في نظام قضاعة فالأمر مختلف، فنظام قضاعة قام على القواعد الصوتية والإيقاعية التي سارت عليها قرائح العرب، سواء وردت القوالب موثقة عنهم أم أبدعها شاعر معاصر.
هذا مع إقراري بأنه ليس هناك أقوى من نظرية الخليل العروضية إذا غابت نظرية قضاعة عن الساحة الصوتية والعروضية؛ هذا على حدّ زعم صانعها طبعاً (أبو الطيب القضاعي)، وهو زعمٌ لا ألزم به أحداً إلّا نفسي ومن تبعني.
وإذا اشتركَ بعد ذلك ذوي النباهة والمعرفة بهذا الزعم، فسوف يثبت هذا الزعم لعروض قضاعة في الساحات الصوتية والعروضية؛ إذا شاء له الله ذلك طبعاً؛ فصحة الفكرة وقوتها ليست الشرط الوحيد لهيمنة الفكرة على الساحة المعنية، فما لم يقدر الله أتباعاً للفكرة يحملونها عن صاحبها، فستظل حبيسة كُتب صاحبها.
تقبل تحياتي...