رهن التحقيق
قصة بقلمي
يقترب النهار من منتصفه.واليوم ينبيء بطقس صيفي قاس ورطب.
&&&&
بخبرة ورثها عن أبيه وجده، انهمك عم حسنين وولده الصبي، يعدان المشروبات والعصائر الباردة؛ يهشمان ألواح الثلج، يعبئان بها زجاجات ضخمة ، ويصبان فيها شرابا مختلفا ألوانه لذة للشاربين، من المارة تحت شمس الصيف الحارقة.
يدفعان عربة خشبية ملونة، فوقها زجاجات كبيرة منتفخة، تحوي العصائر الباردة. يقبعان في ركن من الشارع الرئيسي ، على حافة رصيف نصف دائري، عرضة للمارة السائرين.إذ لم يكن عم حسنين يملك دكانا، يمارس فيه تجارته، فذلك أمر خارج عن حدود قدراته المالية ؛ فصار وجوده في تلك البقعة من الشارع علامة، ومشهدا مألوفا لدى المارة، وزبائن المحال وأصحابها، تلك المتاجر التي كانت منتشرة على طول الشارع. إذ يمثل لهم عم ( حسنين) مركزا لارتشاف شراب بارد حلو ورخيص؛ يطفئون به غائلة العطش.ويرطبون به حلوقهم الجافة
&&&&
حين تستقر العربه ، في المكان المعتاد، ينادي عم حسنين على مشروباته بصوت جهوري جميل.يتبعه في تناغم ابنه الصبي بصوته الطفولي البريء.
.
&&&&&
ارتضى عم حسنين
مهنته تلك ،شاكرا ،صابرا محتسبا، وكيف لا ، فهي تدر عليه ربحا يكفل له عيشا بسيطا ، يستره ، ويمنع عنه مذلة السؤال، وهو يعالج شظف العيش، في مسيرة حياته ؛مع زوجة جميلة صابرة عليلة القلب، التي كانت أحيانا ما تخرج معه إلى الشارع ،ومساعده ؛ولده ، ذلك الصبي الوحيد.
&&&
تمضي الحياة في سيرها المعتاد، مسالمة، هادئة، بين إعداد العمل في مطلع الفجر، حتى العودة في المساء، لإعداد طريحة أخرى من الماء الملون المثلج ، لفترة تمتد حتى منتصف الليل.
&&&
لم يسلم عم حسنين، وامرأته، وابنه الصبي
من مضايقات رجال التنظيم آو الصحة؛ لكن الأمر لم يكن يتعدى دفع قليل من النقود كغرامة مالية ، ربما بحجة عدم نظافة الأكواب، أو بتهمة باطلة كإشغال الطريق.
غير أن الأمر كان يمر بخير دون غرامات، لو سد أفواه أولئك المتربصين بشيء من مشروباته الحلوة المثلجة، أو بسمة خجولة من زوجته المخلصة، في وجوه المتربصين.
&&&&
في ضحى ذلك اليوم، ما إن استقر بعربته يتبعه صبيه وزوجته،حتى انتشرت في الميدان أسراب سوداء، ذات خوذات وأقنعة لامعة، مدججة بالسلاح.
امتدت تلك الحشود على طول رصيف الشارع على الجانبين. إذن فهو حاجز أمني لتأمين مرور المسئول الكبير.
هرعت مجموعة من الجند نحو عربة عم حسنين وصبيه، وهجمت دون كلام، وقلبت العربة وما عليها رأسا على عقب، وما هي ألا ثوان ووصلت شاحنة كبيرة ليلقى بعربة (حسنين) في صندوقها،ناهيك على الضرب والصفع، لكل بائع متجول يقوم بالاعتراض أو المقاومة.
سقطت زوجته العليلة من هول المفاجأة صريعة فوق صخور الرصيف والأسفلت المشتعل جراء حرارة الشمس.فاحتد,(حسنين) صارخا مولولا، .وانفجر صدره عن كلام في الممنوعات.
فقبض عليه رهن التحقيق.
&&&&&
بمرور حرب وراء حرب،وحاجز وراء حاجز، ومرور مسئول كبير ، وراء مسئول كبير،شاخ الصبي الأعور؛ الذي كان قد فقد إحدى عينيه ، جراء انفجار قنينة العصير الزجاجية
في ذلك الضحى المشؤوم .
وكان قد هجر مهنة أبيه، فهو يعمل الآن حمالا في سوق الملح الكبير ، يعيش وحيدا في غرفة رطبة.... وما زال أبوه حسنين غائبا .. رهن التحقيق.