حكايات العابرين
٢. زيت أسود ثقيل
شدتني إليه ابتسامته العريضة، ونظرته الودودة.
فما إن اتخذت مكاني على مقعد متطرف خارج الكافتيريا الشعبية، إذ عزمت على تناول وجبة شعبية، وقد اصطفت بعض الطاولات والمقاعد على امتداد الرصيف، حتى بادرني بتلك النظرة المرحبة، وكأنني قد دخلت عليه بيته.
ولما كنت أشعر بالملل، ورتابة الحياة، رغم عودتي بثروة لا بأس بها على الأقل من وجهة نظري، إذ توفر لي حياة طيبة بلا قلق أو عناء معيشة، بعد تقاعدي من عملي ببلاد الرمل والزيت والدولار. وجدت في نفسي رغبة للحديث معه، درءا لذلك السأم الذي يسكنني.
$$$$
ألقيت بالسلام،فرد ببشاشة وترحاب الكرماء.
$$$$
وجدت عنده رغبة في التواصل الكلامي.ودار بيننا الحوار، وعلمت منه أنه غريب عن مدينتنا ،يأتي إليها صباح كل يوم ، ويغادرها عند المساء،
$$$$
ستيني ،رث الهيئة ، ملابسه ملوثة بزيت أسود، وكفاه أيضا ، وجبينه لم يخل من تلك البقع الزيتيةالسوداء.شعر الرجل بتعجبي من هيئته ..ربما، فطفق يشرح لي طبيعة عمله.فهو يقوم بتزييت أبواب المحال التي تتحرك في مجرى حديدي على جانبي الباب، لرفعه لأعلى أو إنزاله لأسفل بسهولة ويسر.
وظيفة تافهة، ابتدعها العاطلون ،كمورد رزق، يقترب من حافة التسول. فليس كل أصحاب المحال يسمحون له بذلك.ناهيك عن أن الأبواب قد لا تحتاج لتلك العملية كل يوم..وربما لعدة أشهر.
وليس لتلك العملية ثمن محدد، فدخلها يعتمد على ما يجود به صاحب الدكان ،إن سمح له أن يمد بقصبته الطويلة ،وفي آخرها تلك الرأس المستديرة من القماش ،المشبعة بالزيت الأسود الثقيل.
&&&&
كان يبدو سعيدا بمحصول اليوم، فجلس هنا على قارعة الطريق في ذلك المقهى المزدحم،وفسرت ترحابه الشديد
أنه جائع ، فجلس هنا،ربما جاد عليه أحدبشيء من طعام أو شراب.
انفجر سعادة ،شاكرا مهللا حين طلبت له معي شطيرتين ( فول وطعمية) وكوبا من الشاي.
كان يلتهم الطعام بنهم من لم يلمس زادا ليوم كامل.
- أنا من طنطا
- أهلا وسهلا
- حاصل على الإعدادية، وكنت أعمل مساعد بسيط، لميكانيكي في شركة كبرى ، تم تصفيتها ، ووجدت نفسي في الشارع بمكافأة هزيلة، ومعاش تقاعدي لا يوازي سنين خدمتي الطويلة، كما أنه لا يسد أبسط حاجات أسرة من أب وزوجة وثلاث بنات.
- ربنا يعينك
- اضطررت إلى النزول للشارع ، أمارس شيئا من مهنتي السابقة التي لا أجيد سواها؛ (تزييت الماكينات.)
- مالذي أتى بك هنا .. لم لا تعمل في محافظتك؟
- أنا أتجول في المحافظات المجاورة لطنطا ، في كل بلدة شهر، أتعرف على أناس طيبين من أصحاب المحال والمقاهي والبوابين، أحفظ لديهم عدة الشغل ،وملابسه.
- لكن أليست مدينة طنطا أفضل لك .. توفر تكاليف السفر ومشقته؟
- لا يمكنني أن أعمل هناك، الناس هنا لا يعرفونني، وهناك ربما رآني أحدهم، كما أن بناتي لا يعلمن بمهنتي، إذ أخبرتهم بأنني أعمل مندوبا للمبيعات ، أطوف محافظات عدة. أتريدني أن أسبب لهن إحراجا بين زملائهن؟لا ... لا .
- ، فبناتي ،اثنتان يدرسن في الجامعة ، أما كبراهن الثالثة فهي معيدة في كلية العلوم ، وتحضر لنيل درجة الماجستير.
كانت عيناه تلمعان بالفخر والاعتزاز،شاكرا لأنعم الله بصدق ، وهو يحكي عن بناته وزوجته الصابرة.
استأذنني ليغتسل في محطة الوقود المجاورة ،ويغير ملابسه.
سلم علي بحرارة ،تابعته بنظري وقد ارتدى ملابسه النظيفة ، شاقا طريقه بحماس وثقة، نحو محطة القطار. كانت شمس الغروب تكسو الأفق بكساء ذهبي جميل، وكانت نسائم الصيف تبعث في النفس سكينة عجيبة.