الآن بعد هذا العرض الموجز لصورة القافية في نظام الخليل، هل لاحظت معي أن لقافية في نظام الخليل لها مفصِلَين تتفرعان من عندها، هما مفصِل التفريق بين المطلق والمقيّد من جهة، ومفصِل التفريق بين الردف والتأسيس والمجرّد من جهة ثانية؛ وهما متداخلان جدا ببعضهما، وقام على كل مفصِل منهما تفريعات.
وهل لاحظت أيضاً أن عدد حروف القافية كما قررها الخليل هي ستة في الظاهر، لكنها على الحقيقة خمسة حروف فقط. وقد تجتمع هذه الحروف الخمسة كلها في قافية واحدة، وقد لا يجتمع إلّا اثنان منها، أحدهما الروي طبعاً، مع حرف آخر قبله. فحروف القافية عند الخليل بحسب اتجاه سير القافية في النطق: ألف التأسيس، الردف، الدخيل، الروي، الوصل، الخروج. (انظر الصورة)
قافية- واحة.jpg
فالوصل عنده يتفرع إلى فرعين بنفس المسمّى: 1- حرف المد الناتج عن إشباع حركة الروي المطلَق؛ لأنه لا وقوف لقافية عربية على متحرك [وهذا بنفس مفهوم الخروج]. والفرع الثاني هو الهاء الساكنة الموصولة بالروي المطلق.
فالخليل لم يعطِ كل حرف من حروف القافية مسمّى عام به مرتبط بموقعه في تسلسل القافية، بغض النظر عن مفتاح القافية؛ ولو فعل ذلك لأراح العقل في التفكير، والقلم في التسطير. لكنه بدلاً من ذلك، جعل الرّوي قطب الرّحى، وما قبله وما بعده يعتمد عليه لُغوياً ونـحْوِياً في التفريع. وقد أعطى بعض مكونات القافية بنظره مسمّيات مخصوصة، لكنه لم يشرك معها في المسمّى غيرها مما لها نفس الواقع؛ وأشرك بعضها بنفس المسمّى مع أنّ واقع كل منها مختلف عن الآخر..!
فالحرف الرابع والخامس لهما نفس المسمّى عنده، وهو (الوصل)؛ مع أنّ الحرف الرابع هو حرف مد سينتج عن إشباع حركة الروي غير الموصول بها. والحرف الخامس هو الهاء التي قد تتصل بالروي المحرك؛ وهذان واقعان مختلفان عن بعضهما كما ترى.
بل أنّ مصطلح الوصل عنده يجمع بين الهاء الساكنة والمحركة، فلم يشركهما حتى بمصطلح المقيّد والمطلق [الساكن والمحرك]، اللذين خصهما بالروي وحده. والحرف السادس الذي هو حرف مد أيضاً، ينتج عن إشباع حركة الهاء فيما لو كانت محركة؛ فقد منحها الخليل مسمّى (الخروج)، مع أنّ واقعها هو نفس واقع الوصل الذي سينتج عن إشباع حركة الروي غير الموصول بهاء.
والحرف الثاني في القافية العربية قد تنازعه في نظامه مسمّى (الرِّدف) ومسمّى (الدخيل)، فإذا لم يكن ردفاً ولا دخيلاً، فليس له مسمّى عنده. أمّا الحرف الأول في القافية العربية في نظامه، فقد اقتصر على مسمّى التأسيس، فإذا لم يكن هو ألف التأسيس، فليس له مسمّى عنده. وهذا ما جعل وصف هذه الوقائع في نظامه مربكاً للذهن.
ثم أنّ الخليل صنع لحركات القافية ستة مسمّيات قائمة وحدها (الرّس، الحَذْو، الإشباع، التوجيه، المَجْرى ، النّفاذ). فالرّس هو الفتحة قبل ألف التأسيس، وهذه فعلياً لا داعي لها، فما يسبق ألف المد هو دائماً فتحة. والحذو هو الحركة التي قبل الردف. والإشباع هو حركة الدخيل. والتوجيه هو الحركة التي قبل الروي المقيّد. أمّا المجرى فهو حركة الروي المطلق سواء كان موصولاً بهاء ساكنة أم غير موصول بها [مثلاً: ضمة الباء في كل من: قلبُ - قلبُـهْ]. أمّا النفاذ فهو حركة الهاء التي للوصل [مثلاً: ضمة الهاء في: قلبُـهُ – كسرة الهاء في : سماءهِ].
فلو أنّ الخليل – كما قلنا- كان قد أعطى كل حرف من حروف القافية المعتبرة مسمّى عام به مرتبط بموقعه في تسلسل القافية، لكان من السهولة بمكان نسبة حركة الحرف المقصود إلى مسمّى الحرف نفسه، دون داع لصنع مسمّى له يرهق الذهن. فمثلاً: قد منح أبو الطيب القضاعي الحرف الذي قبل الروي مسمّى "السّند"، كمسمّى عام في كل مفتاح، ولو أردنا الإشارة لحركته فسنربطها بالمفتاح ونقول: (حركة السند في مفتاح التأسيس)، وهكذا فإنه لا داعي لمسمّى "الإشباع". حتى أنه هذا ممكن تطبيقه في نظامه مع الروي، فبدلاً من مصطلح "التوجيه" الذي لا داعي له، يمكننا القول: (حركة الروي المقيّد)، فهذا أيسر للذهن وأخف وطاة على الذاكرة. فصاحب عروض قضاعة قد قسّم القافية على أساس حروفها الخمسة ومفاتيحها الأربعة، ما جعل مبحث القافية سهلاً جداً. وتفاصيل ذلك سنراها في المقالة القادمة بإذن الله.
والمذكورة أعلاه، هي أهم مصطلحات القافية في نظام الخليل المتقاطعة مع علم العروض من وجهة نظر الخليل، ذلك أنّ انسجام القافية مع الوزن [مع الإيقاع]، لا مساومة فيه في الشعر العربي. فهذه القوافي المردوفة الملتزمة برويّ اللام: (قتِيلُ– تفصِيلُ – تعوِيلُ- تمثِيلُ - تأوِيلُ - غلِيلُ – تقبِيلُ - مثاكِيلُ - نبِيلُ - قلِيلُ – عوِيلُ – تحوِيلُ – يميلُ - جميلُ – خلِيلُ – تهلِيلُ- يسِيلُ - جلِيلُ)، قد تأتي في قصيدة واحدة لكونها محققة لشروط القافية العربية.
لكن لابد من تحقيق شرط آخر معها، ألا وهو انسجامها مع الوزن. فهذه الكلمات يمكن أن تأتي في قصيدة واحدة، وعلى أكثر من قالب محدد من البحر الواحد أو من قوالب البحور الأخرى؛ فالمهم أن يكون ضرب القالب منتهي بسبب خفيف، أو منتهي بسببين خفيفين، أو منتهي بثلاثة أسباب خفيفة، ليمكن لهذه القافية المردوفة المطلـقة وغير الموصلة بهاء، أن تلتحم بها، كالتالي:
خُذا لَذَّةً مِن ساعَةٍ مُستَعارَةٍ ... فلَيسَ لِتَعوِيقِ الـحَوادِثِ تَمثِيلُ
//0 /0 - //0 /0 /0 - //0 /0 - //0 //0 ... //0 / - //0 /0 /0 - //0 / - //0 /0 /0
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن ... فعولُ مفاعيلن فعولُ مفاعيلن
نعم، لا نعم، لا لا نعم، لا #، نعم ... نعم، نعمم، لا لا نعم، نعمـ#ـم، لا لا
- جملة وصف نظام الخليل: الطويل ذو العروضة التامة المقبوضة، ولها ضرب صحيح سالم.
[- جملة وصف نظام قضاعة: الطويل ذو الصدر الدارع المعقود، والعجز الدارع المتروك. (دارع: # قطيف)]
****
وما ماتَ منّا سَيِّدٌ حَتفَ أنفِهِ ... ولا طُلَّ منّا حَيثُ كانَ قَتِيلُ
//0 /0 - //0 /0 /0 - //0 /0 - //0 //0 ... //0 /0 - //0 /0 /0 - //0 / - //0 /0
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن ... فعولن مفاعيلن فعولُ مفاعلْ
نعم، لا نعم، لا لا نعم، لا #، نعم (ت=14) ... نعم، لا نعم، لا لا نعم، نعمـ#ـم، لا (ت= 13)
- جملة وصف نظام الخليل: الطويل ذو العروضة التامة المقبوضة، ولها ضرب محذوف معتمَد.
[- جملة وصف نظام قضاعة: الطويل ذو الصدر الدارع المعقود، والعجز الفارع المتروك. (دارع: # قطيف ، فارع: # خطوة)]
****
كَأنّ بين تَراقِيها ولبَّتِها ... جَمراً به مِن نُجومِ اللَّيلِ تَفصِيلُ
//0 //0 - ///0 - /0 /0 //0 - ///0 ... /0 /0 //0 - /0 //0 - /0 /0 //0 - /0 /0
متفعلن فعلن مستفعلن فعِلن ... مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلْ
نعم نعم، نعمم، لا لا #، نعمم (ت= 14) ... لا لا نعم، لا نعم، لا لا #، لا لا (ت= 13)
- جملة وصف نظام الخليل: البسيط ذو العروضة التامة المخبونة، ولها ضرب مقطوع.
[- جملة وصف نظام قضاعة: البسيط ذو الصدر الدارع المجدول، والعجز الفارع المتروك. (دارع: # فتلة، فارع: # فَتيل)]
****
وفِتيةٍ كَالنُجومِ حُسناً ... كُلُّهُمُ شاعِرٌ نَبِيلُ
//0 //0- /0 //0 - //0 /0 ... /0 ///0- /0 //0 - //0 /0
متفعلن فاعلن متفعلْ ... مستعلن فاعلن متفعلْ
نعم نعم، لا #، نعم لا (ت= 10) ... لا نعمم، لا #، نعم لا (ت= 10)
- جملة وصف نظام الخليل: البسيط ذو العروضة المجزوءة المقطوعة الممنوعة من الطي الجائز فيها الخبن، وضربها مثلها. (مخلّع البسيط)
[- جملة وصف نظام قضاعة: البسيط ذو الصدر الأحدب المعقود، والعجز الأحدب الأرقط. (أحدب: # قطاع)]
****
1- يا ويلَ أُمِّكُمُ ووَيلَ أبِيكُمُ ... ويلاً تَرَدَّدَ فيكُمُ وعَوِيلُ
/0 /0 //0- ///0 //0- ///0 //0 ... /0 /0 //0- ///0 //0- ///0 /0
متْـفاعلن متَـفاعلن متَـفاعلن ... متْـفاعلن متَـفاعلن متَـفاعلْ
لا لا نعم، نعمم #، نعمم نعم (خ= 12) ... لا لا نعم، نعمم #، نعمم لا (خ= 11)
2- وسَرى بِكُمْ تَيسٌ أَجَمُّ مُجَذَّرٌ ... ما لِلدَّمامَةِ عنكُمُ تَحوِيلُ
///0 //0- /0 /0 //0- ///0 //0 ... /0 /0 //0- ///0 //0- /0 /0 /0
متَـفاعلن متْـفاعلن متَـفاعلن ... متْـفاعلن متَـفاعلن متْـفاعلْ
نعمم نعم، لا لا #، نعمم نعم (خ= 12) ... لا لا نعم، نعمم #، لا لا لا (خ= 11)
- جملة وصف نظام الخليل: الكامل ذو العروضة التامة الصحيحة الجائز فيها الإضمار، ولها ضرب مقطوع ممنوع إلّا من الإضمار والسلامة.
[- جملة وصف نظام قضاعة: الكامل ذو الصدر التام الحر، والعجز التام الأثلم الحر [= الكامل ذو الصدر التام والعجز الأثلم الحرّين]. (كامل تام: # قنطرة خببية، أثلم: # قطاع خببي)]
****
1- وانْقَضى صَبرُكَ الـجَمِيلُ وما يَـبْـ ... ـقَى على الـحادِثاتِ صَبرٌ جَمِيلُ
/0 //0 /0 - //0 / /0- ///0 /0 ... /0 //0 /0 - //0 / /0- /0 //0 /0
فاعلاتن متفع لن فعلاتن ... فاعلاتن متفع لن فاعلاتن
لا نعم، لا نعم #، نعمم لا (ت= 12) .... لا نعم، لا نعم #، لا نعم لا (ت= 12)
2- وسَلا مغرم وليسَ بِسالٍ ... وتَجافى عنِ الـخَلِيلِ خَلِيلُ
///0 /0 - //0 / /0- ///0 /0 ... ///0 /0 - //0 / /0- ///0 /0
فعلاتن متفع لن فعلاتن ... فعلاتن متفع لن فعلاتن
نعمم، لا نعم #، نعمم لا (ت= 12) .... نعمم، لا نعم #، نعمم لا (ت= 12)
3- بِكَ تَـزكُو الصَّلاةُ والصَّومُ والـحَجْـ ... ـجُ ويَزكُو التَّسبِيحُ والتَّهلِيلُ [والحجُّ: تدوير]
///0 /0 - //0 / /0- /0 //0 /0 ... ///0 /0 - //0 / /0- /0 /0 /0
فعلاتن متفع لن فاعلاتن ... فعلاتن مستفع لن فالاتن
نعمم، لا نعم #، لا نعم لا (ت= 12) .... نعمم، لا نعم #، لا لا لا (ت= 11)
- جملة وصف نظام الخليل: الخفيف ذو العروضة التامة الصحيحة الجائز فيها الخبن والكف والشكل، وضربها مثلها يجوز فيه التشعيث من غير لزوم لكن يمتنع فيه الكف. [فلا وقوف لقافية عربية على متحرك]
[- جملة وصف نظام قضاعة: الخفيف ذو البيت التام المخضود، وغير المعذور صدراً.].
فضرورة انسجام أحكام القافية العربية مع نهاية إيقاع العجُز [مع جرس العجز]، قد لاحظه الخليل رحمه الله، لكن نظرته اللغوية النحوية الخالصة للقافية، وارتهانه للحرف الصوتي، بالإضافة لخطأ فكرة الجزء في ذاتها كما رأينا في مقالة سابقة في رابطة الواحة "السر الدفين"، ولأمور أخرى ليس هذا أوان طرحها؛ فهذا ما جعل موضوع القافية في نظامه عسيراً على الاستيعاب بسهولة. مع أنّ أمر القافية للإنسان العربي أهوَن بكثير من أمر العروض.
فالقافية عند العرب هي تذوّق صوتي أكثر منها علم. فالعربي بفطرته العربية المطبوع بها، والتي لم يفقدها لحد الآن، ولا أظنّه سيفقدها؛ يعرف أنّ (ناصرُ) ككلمة قافية، يمكن أن يأتي معها (صابرُ) وليس (صَبَروا)، ولا (صَبْـرُ)، ولا (صَبُوْرُ)؛ دون أن يحتاج أن يعرف أين الروي فيها وأين الردف وأين التأسيس، وهل هي مجرّدة أم مطلَقة أم مقيّدة.