حكايات العابرين.
بقلمي
١. البحار العجوز
لن تصدق كيف كان ذلك الشيخ الفاني، الذي يمر على الدكاكين، بملابس بحار مهلهلة ، حاملا قصعة نحاسية للفحم المشتعل والبخور.
&&&
يطوف على الدكاكين ، منحنيا، بلحية كثة، وشعر بلون الثلج منسدل على كتفيه ،متهالك الخطى، يقتحم المكان، وهو يردد أدعية ويتمتم بأوراد، ينشرها في المكان, وتحت غمامة دخان البخور. يمد كفه المعروقة، يتناول الكفاف من عملات معدنية، يقبلها ويرفعها إلى جبينه مرتين. ويخرج لدكان آخر، ربما منعه صاحبه من الدخول، غير راغب في بخور ذلك العجوز.
$$$
هو ذاته الذي كان بحارا يطوف أرجاء الدنيا، يزور الموانئ، ويغشى المدن ولياليها الحمراء.يكسب مالا لا حصر له، وينطق بألسنة ولغات شتى؟
هل تصدق أنه أتلف ماله كله في مغامرات حامية ، وطافت به السفن إلى أقصى مرافيء المتعة ، وشغف الترحال، وشبق المغامرة؟
$$$
كان وطنه هو آخر تلك الموانئ ، حيث ألقت به شراع الريح مفلسا، عجوزا، شائخ القلب، موجوع الوجدان. بلا زوجة أو ولد. فكثيرا ما كان يردد، لقد تزوجت البحر وجنياته!
وأصر على أن يتنفس هواء المحيطات ، ويعبيء صدره بشذا عطور نسائية فاخرة، ويرطب أنفه بأنفاس جميلات الموج، ويحتسي من خمرة المغامرة حتى الثمالة .
$$$
عاد الآن أكثر عطشا ، وأعمق حزنا،واغترابا لمينائه الأخير.
لا شيء يملكه الآن سوى غرفة متهالكة النوافذ والأبواب، تضمه ، ولا تمنع عنه رياحا أو مطرا. وذكريات أمست وجعا لا ينتهي، وبقايا ملابس نوتي مهلهلة، وقصعة نحاسية معتمة، وكومة رماد لفحم كان مشتعلا يوما ما.إنه الآن في سفينته المتعبة، الراسية على ركام أحجار بحر الحياة الصاخب.