جلَسَ «البرغيُّ» مع أحد المسامير في مقهى الميناء الكبير يتبادلان الحديث، وكان «البرغي» حزيناً يشكو من تجاهل الآلات الثقيلة وسيارات النقل الضخمة له، وهي تمر غير مهتمة لوجوده، تصدر أصواتا عالية تنُمُّ عن صلَفٍ وغُرور, رغم أنه كبير البراغي في الميناء.
كانت الحركة في الميناء لا تهدأ , فالسفنُ الضخمةُ تطلقُ أبواقَها, وسيارات النقل العملاقةِ تزفرُ زفيراً هائلاً, وهي تطلقُ دُخانَها الأسود الثقيل, حاملةً حاويات البضائع التي أنزلتها الرافعاتُ من السفن للتو, بينما تمرُّ السيارات الصغيرة بين الحين والآخر، وهي تستعرضُ ألوانَها المعدنية الجميلة، وتتباهى بمزاميرها المتنوعة، حتى العربة الخشبية التي يجرها حصانٌ هرم، كانت تمرُّ به وهي تصدرُ صريراً مزعجاً عدا عن صوت «الحوذيِّ» الخشن الأجَشّ الذي يعلو بين الفترة والاخرى.
قال البرغي:
- لماذا تصرُّ هذه الآلات الغبيّةُ على تجاهُلِنا والحطِّ من شأننا؟ مع أنَّنا وأمثالَنا نملكُ أن نضعَها في حجمها الحقيقي!!
في تلك اللحظة، مرت طائرةٌ عملاقةٌ فوق الميناء، أصَمَّ هديرُها أذن المسمار، فلم يسمع سؤال زميله البرغي...
الميناء في حركةٍ دَؤوبةٍ لا تهدأ، وكلُّ آلةٍ تمرُّ عليه تتهادى في خُيَلاءَ كأنَّها ملكة المكان، وفجأة، حدث احتكاكٌ شديدٌ بين إحدى سيارات النقل الكبيرة وأخرى صغيرة تاهت بين عجلاتها الضخمة.
صاح «البرغيُّ» يا ساتر.. يا ساتر.. ثم انطلق نحوهما للمساعدة وتقديم العون، كانت السيارة الصغيرة تبكي من الألم، بينما كان هدير سيّارة النقل يرتفعُ غاضباً مزمجراً.
اقتربَ «البرغي» من السيّارتين متَطوِّعاً للمساعدة, فما كان من سيارة النقل الكبيرة إلا أن رفَسته بغضبٍ وهي تقول:
-إذهب عني أيُّها البرغيُّ التّافِهِ!!
كان إحساس «البرغي» بالمَهانةِ أكبرُ بكثيرٍ من إحساسِه بالألم الذي نجمَ عن الرَّفسة، فابتعدَ بغضبٍ وقال:
-أيتُها الناقلةُ الحمقاءُ، لولانا نحنُ معشرَ البراغي لما كنتِ ولا كانت لك ولأمثالك أي قيمة!!
دُهشَ المسمارُ الذي كان يتابع ما يجري فقال للبرغي:
- ماذا تقول؟ إنّنا لسنا أكثر من أدوات بسيطة صغيرة، مالنا ولهذه الوحوش العملاقة؟!
كان «البرغي» يرتعش من شدَّةِ الغضَبِ، وزادت من غضَبهِ سَذاجةُ زميلِه «المسمار»، وبما أن البراغي إذا اشتَكى منها «برْغي» تداعتْ له سائرُ البَراغي بالنَّصرِ والُمؤازرةِ، صاح بأعلى صوته: - أيَّتُها البراغي.. النَّجدة!!
ولم ينتبهِ «المسمارُ» إلى عشرات؛ بل آلاف البَراغي التي تركت أماكنها، واندفعت نحو «البرغي» من الناقلة الكبيرة، وكذلك من السيارات والآلات القريبة التي سمعت النداء استجابةً له ولنصرَته، ولكنَّهُ أرهفَ السمعَ للضَّجيجِ العالي الذي أحدَثَه ارتطامُ القطع والصفائحِ المعدنيةِ التي تساقَطت تِباعاً من الناقلة إلى الأرض، لدرجة أنها أصبحت مجرد قطعٍ متناثرَةٍ من الحديد الخردة.
في هذه الأثناء كان «البرغي» يتوسَّطُ آلاف البَراغي، وعلى شفَتيه ابتسامةٌ واسعة ٌتنمُّ عن الرِّضى والانتصار، والتفتَ إلى «المسمار» فوَجدَه يقِفُ مذهولاً وسط «البراغي»، فاقترب منه وربّتَ على كتِفِه وقال:
- هذا هو الرَّدُ على تساؤُلِكَ يا عزيزي، فلا تُقلِّلْ من شأنِكَ، ولا تستَهِنْ بمكانَتِكَ، لأن هذه الناقلة وأمثالها ستبقى هكذا مجرَّدَ قطَعٍ متَناثِرةٍ من الحديدِ، إذا لم تجمَعْها هذه البراغي والمساميرُ الصَّغيرة وتمنَحُها الحياةَ عندما تعود إلى أماكنها.
ثمَّ طلبَ من زملائه «البراغي» العودة إلى كلٌّ إلى موقعِهِ في الناقلةِ الكبيرةِ التي خفَتَ هَديرُها بعدئذَ من شدَّة الخجل.