"مايا ومايا"
قصة/هناء عبدالله بن بريك
وسط ركام الأنقاض تستلقي على ظهرها ، تحدق عيناها الزرقاوان بجمود إلى الأعلى ، في الغرفة التي تحولت للتو إلى هيكل بناء تستند على حائط واحد وسقف متهالك، نفذ بيسر ضوء القمر صوب كل ناحية داخلها ، فيما القى بظلاله الزرقاء الباهتة على جسد مايا الصغير وكأنما منحها قبس من الحياة , في البدء أحست بيد باردة , تتشبث بقوة أصابع يدها الصفراء, وكمن أستعاد وعيه بدأت تدرك رويدا أن كارثة ما قد حلت هنا وما كان يزيدها رعبا هو المجهول صاحب اليد الهامد بقربها بلا حراك ، مثلها هي الأخرى لا تملك القدرة على الأقل لتحريك عينيها , فأينما أستقر جسدها كان ذلك إتجاه بصرها .
تسارع الأحداث لم يمنحها الوقت لتستنتج عن طبيعة الظرف الذي تواجهه الآن , وسرعان ما انطلق في الخارج وهج ناري أحمر يشعل السماء و يعقبه بثوان ارتجاجات عنيفة , تكرر الوميض تلو الآخر , وبدأت تميز أن مع كل ومضة نار مصحوبة بارتجاج ؛ ثمة إنفجارات ضخمة تحدث في مكان ما قريب .
كلما تصاعدت ألسنة اللهب في السماء ,كان يعينها ذلك على رؤية أجزاء من الغرفة ، وتزداد إداركا بما خلفه القصف حولها من دمار نتج عنه انهيار ثلاثة حوائط ، وتحطيم لكل الأثاث والمقتنيات، دولاب صديقتها مايا ، سريرها ، ألعابها ، أغتيل كل شيء ، ولم يبقى سوى بقايا متناثرة .
أصيبت بالهلع، فمنذ أن دبت نفخة الحياة في جسدها، كان الموقف الأصعب في أن تبكي بلا دموع وتنتحب بلا صوت ،و لو استطاعت الصراخ ، لصرخت بصوت عال، ولكن قدرتها الوحيدة هي أن تذرف دموع إلى الداخل وصيحة مكتومة تنادي: أين صديقتي مايا ، أين مايا .. لمَ تركتني ؟
سرى نوعا من الألم في جسدها، ذلك الذي لم تجربه سابقا حتى في المرة التي خاطت لها صديقتها مايا -ذراعها- عندما تعرض للتمزق ، والآن ودت لو تنطلق قدماها وتفر من هذا الكابوس الذي تواجهه بعيينن مفتوحتين وجسد مستسلم .
عند بزوغ أول خيط من النهار توقفت أصوات القصف ، حل صباح كئيب خانق ، بعد ليلة دامية في الخارج وكأن الموت نال حتى من نسمات الهواء ، الطائرات تحلق بكثافة ، والأجواء تنبئ بقادم لا يسر ، لم تمضي دقائق , حتى بدت تقترب جموع أصوات ليست مألوفة ، فجأة اقتحمت الغرفة أقدام كبيرة لعدد من الجنود ، استقرت أقدام أحدهم بجانب جسدها ، بينما كان بقية رفاقه يتجولون على الأنقاض ، تدوس أحذيتهم على زجاج متكسر ، وأخرى تزيح بعض البقايا وتقلبها أملا في العثور على ماقد يكون له قيمة.
لصوص ! أين مايا.. أريد أن أصرخ ، أنا خائفة يا صديقتي خائفة.. (تحدث نفسها)
انحنى نحوها وجه أصهب كمسخ , يتفحصها بعينيه الخضراوين ، تبدو نظرته غريبة وكأنما يتفحص سلعة ما ، يتهجأ الأحرف المنقوشة بخط صغير على صدر ثوبها ( م. ا . ي . ا) ، على رأسه خوذة تشبه الخوذة التي كان يضعها صديقها الجندي رومي على رأسه، الأصهب يقترب أكثر بشكل مخيف يشعرها بتوقف أنفاسها ، طريف أن تتساءل إن كان لديها من الأساس أنفاس ؟
ما أن مد يده حتى أدركت أنها لم تكن المقصودة .. سحب اليد القابضة من أصابعها , وعلى مهل شعرت بتحرر يدها، استقام الجندي وعلامات الاشمئزاز بادية على وجهه وبطرف أصبعيه يمسك بشيء ويأرجحه في الهواء ، وفي الوقت ذاته يتحدث لرفاقه بلغة غير مفهومة , ليست لغة صديقتها مايا.
بدأت تستجمع الفكرة عن ذلك الشيء ، إنها يد ، يد فقط لاغير ، بل أشلاء يد ، صدمت حين تعرفت على صاحبها ، إنها لصديقتها مايا , يد فحسب .
على غرة سالت قطرة دماء من أشلاء اليد، لتستقر في عينها ، قذف الأصهب بيد مايا صديقتها جانبا دون إكتراث، والتقط مايا ممسكا بخصرها بقوة، كسبية حرب، دسها بقسوة وكومها في حقيبته .
وأثناء مغادرة الأصهب ، تسنى لمايا أن تحظى برؤية شاملة لمحتويات الغرفة ، كل شيء مبعثر وقد فارقته الحياة ، اللون الأحمر الداكن صبغ غطاء السرير،تكسر رومي إلى أجزاء وصديقتها مايا صارت كرومي ، كان ذلك أخر مشهد يودعه بصرها، ودعت وطنها الوحيد ،وبحسرة ويأس تمنت لو لم تفارق يد صديقتها.
جلبها الجندي إلى بيته ، ومنحها كهدية إلى طفلته التي كانت بعمر صديقتها مايا ، وتتحدث بنفس لغة أبيها الأصهب ، حتى أنها تمسك بمايا بطريقة لا تختلف عن طريقته.
وفي ذات مرة ، ما أن رأت أباها قادما إليها،حتى اندفعت نحوه راكضة ، وبحماسة مفرطة ألقت بمايا بعيدا فارتطمت بعنف على الأرض ، عقب تلك اللحظة غادرها الشعور بأي ألم ، و أغمضت الدمية مايا عينيها إلى الأبد.
...
السلام عليكم
أتمنى من الكتاب والنقاد الأفاضل هنا في ملتقى الواحة أن يتكرموا بإعطاء أرائهم حول القصة .مع خالص الشكر والتقدير.