الجدَار
... ثم إنَّ الغدر حِيكت خيوطُه السَّوداء ليلا، وَبيت أهلهُ المؤامرة وَالمكر سِرًّا، فكان لاجتهادِهم في الذِي حاكوه وَبيتوه فنونًا شتى يندى لها الجبين، فلم يستحُوا وَقست قلوبُهم واسوَدت كالقطِران، وصنعوا مَا زينه لهم الشيطان بزخرفِه، وكادوا يضاهُون بصنيعهم الذِي أشار موسوسًا عليهم به ...
أسفر الصبح، فبدت عتمة ما يلفظونه خبيثا من أفواههم جلية في ما بينهم، وأفصح جرمهم عن بشاعة ما يضمرون، وأصبح من ينظرون إليهم بعين العداوة والحقد والحسد، وقد وجدوا أمامهم جدارا قائما قد تم نصبه، وعلا فاصلا في ما بينهم بأيدي المتآمرين عليهم، ممن حسبوا كل الخير لأنفسهم في ما مكروه، وظنوا الفوز كل الفوز وعظم قدر الغنيمة في ما غرسوه، فظنوا أن الجدار الذي بنوه سيظل حائلا منيعًا ...
اتخذوهُ حمَاية لأنفسهم فيمَا يزعمون من أعداءٍ همُ الذين صَنعوهم، وَشيدوه صدًّا في الذِي يدَّعون لعداوةٍ همْ من أوقد وَأجج نارها، ثم إنهم أرادوه حجابًا لمُواراة وُجوهٍ يكرهون النظر إليهَا، وَلمنع أيادٍ من الامتداد يمقتون مصَافحتها ...
حتى إذا طال عليهم الأمد خلف الجدار، وَضاقت عليهم أنفسُهم بمَا رحبت من الضلال وَالشقاء، وتفجرت أفئدتهم بمَا انطوت عليه من ظلمَات الإثم وَشناعة العدوان، أيقنوا أن لا عدو لهم فِي هذه الدنيا غير إبليس، وَلا أحد ثانيَ سِواهم، وأدركوا أن العداوة سمٌّ يجري في عروقهم بدل الدمَاء، وأن الجدار الذي أقامُوه فرحين، لم يوار إلا أوجههُم المنكرة بأثر الذِي تخفي صُدورهم، وَلم يحجب غير أيديهم الملوثة بدمَاء الأبرياء ...