قصة وينشر الحقد ظلاله
بقلم هائل الصرمي
كلما اقترب موعد الزفاف ازدادت فرحة سمية وصفوان, وفاضت فرحتهما فلم تسعهما الأرض فاحتضنتهما السماء, حتى جاء اليوم الذي جمعهما في قفص ذهبي جميل, طُرِّزَ بجواهر الأشواق, وزُيِّنَ بألماس الحب, وبعد أن استراحت مواكب الأفراح, وأناخ في ربوعهما الانشراح, غادر العريسان موطنهما نحو مدينة الأحلام.
كانت سعادتهما لا توصف...لقد مرت الأيام كأنها حلم جميل سرعان ما انقضى, ولولا انتهاء فترة إجازتهما, لاستمرا في متعتهما يسبحان بين أنهار الغبطة, وبحار الأنس.
عادا وهما يصطحبان كأسا مترعا بالآمال؛ ليرشفا منه الحياة السعيدة الآمنة المطمئنة, عادا والأحلام تندفع من بين عينيهما, وقد عزما أن لا يسمحا لشيء من المنغصات بأن يعكر صفوهما, هكذا كانا يأملان..
فهل يدرك المتمني ما يأمله أم يعترض سير الحياة بلاءُ؟.
ما إن سمعتْ ناهد بعودتهما حتى انتفضت كانتفاضة الممسوس من الجن.. عاد وحش الاكتئاب من جديد ينهش قلبها, فقد كانت حديثة عهد به؛ حيث أصيبت بصدمة نفسية بعد أن علمتْ بزفافهما, وظلت فترة لا يعرف الأطباء سببا لمرضها.
لكنها هذه المرة تماسكت؛ لأنها قد نسجت أحقادها في خطة مدبرة عزمت عليها, كانت بمثابة المسكن الذي يخفف ألم الاكتئاب الموحش, فلم تذهب إلى الأطب
اء كما فعلت سابقا, إنه وحش كاسر مؤذٍ يدهمها كلما نبا إليها أريج سعادة, أو وميض هناء يمر بصفوان وسمية.
كيف تهدأ بالاً وهي تراهما يرفلان اليوم بسندس الحبور, وأثواب الهناء؟ إنها لا تستطيع أن تراهما ينعمان في بساتين السعادة! ولا قدرة لها على تقبل ذلك.
يا لمصيبتها!!, لقد انهارت مرات عديدة قبل أن يسعفها الشيطان بما ألقاه في روعها من خطة وتدبيرٍ مقيت, ولعلها قد طابت بما ألقى, واطمأنت إليه بل وعزمت عليه عزمة من دونها مفاوز الموت وقطع الرقاب.
يا الله كم أكل الحقد قلوب أصحابه ؟! وقتل الحسد حياة أربابه ؟!!.
في اليوم الثاني حملتْ نفسها بعد أن تزينت وأخذتْ من سوق النفاق هدية متكلفة وذهبت إليهما في شقتهما المستأجرة, وقدمت لهما التهنئة, متصنعة البسمة الصفراء على وجهها, متكلفة حسن الحديث ولهيب الغيرة يلسعها كلسع الحية الرقطاء, لتسري في دمائها سموم المكر, كما يسري النفاق على لسانها المعسول.
لم يهدأ لها بال, ولم يقر لها قرار منذ ذلك الحين, وظلت تزور سمية وتحاول استمالتها بالكلام الجميل والهدايا الجذابة, حتى بدأت سمية تشك بهذا الاهتمام الزائد وتتخوف مما وراءه إلا أنها بدأت مع مرور الأيام تتأثر بحديثها, وقد تسلل إلى سمية الظن الحسن بها, خصوصاً بعد أن أخبرتها بأنها تغيرت وشعرت بالندم لطيش أيامها السالفة.
هكذا صدقت سمية ما تنسجه ناهد من معسول القول، ومع مرور الأيام استأنست بها وبادلتها الهدايا والمشاعر وأصبحت من أحب صديقاتها, وكان زوجها يحذّرها من ناهد مرارا فلم تلتفت إليه واستمرت في صحبتها.. وعندما بلغت الثقة بينهما حدا لا يختلجه ريب شرعت ناهد في تنفيذ ما زين الشيطان لها من مكر.
ففي أحد الأيام دخلتْ ناهد على سمية في مكتبها وهي تحملُ كأسين من الفراولة الطازج, وبعد أن ألقت التحية، وضعتهما على الطاولة, ثم تناولت أحدهما وقعدت متكئة على كنبة بجوارها, وبدتْ عليها علامات الارتباك, وهي تقاوم رعشة القلق التي ظهرت في اهتزاز الكأس بين يديها, حاولت إخفاء الارتباك الذي ظهر بين عينيها لتمنعه بابتسامة خفيفة .
ثم قالت: تفضلي اشربي كأسك فإن للفراولة أثراً في حيوية الجسم ونشاطه, كما أنها تساعد على صفاء الذهن, والتفكير الجيد.
وقبل أن تتناوله سمية شكرتها, وبدأت تشرب رويدا رويدا...حتى أتمته، فخرجت زفرة من صدر ناهد كأنها حطت حملا ثقيلا من على صدرها...
أثارَتْ زفرتها انتباه سمية مما جعلها تقول: يبدو أنك لم تنامي بالأمس جيدا فالأرق والقلق ظاهران عليك.
ـ هو ذاك... واستمرتا بالحديث كعادتهما ثم صمتتا, وبعدها قطعت ناهد سلاسل الصمت وبدأت تُلمحُ بأن لديها عملا وترغب بالانصراف, و قبل مغادرتها ظهر عليها انبساط ٌ كأنها تعانق نشوة نصر, أوعودة فقيد بعد يأس وطول انقطاع, لذلك جاء الارتباك مصبوغاً بهذه النشوة...
ساورسمية بعض الشك من ارتباك ناهد, وتساءلت: عن سبب ذلك الارتباك, لكن سرعان ما استدركته بالنفي وسكنت نفسها وذهب خوفها, وانشغلت بما في يديها من عمل وفجأة داهمها نعاس شديد فلم تستطع أن ترفع رأسها وغابت عن الوعي في مكانها .
مرت الأيام ... وتراجع إقبال ناهد على سمية, فلم تعد تتردد عليها ولا تلاطفها كما كانت تفعل, وأثارهذا استغراب سمية
وفي أحد الأيام أصيب أحد أبناء أخت صفوان، وأسعف إلى المستشفى وتم الاتصال بوالديه فاصطحبا معهما خاله صفوان فلما وصلوا وجدوا الفتى في غيبوبة، لقد نزف كثيرا وهو بحاجة إلى دم، أسرع صفوان للتبرع بالدم, وبعد أخذ عينه من دمه للتأكد من تطابق فصيلتيهما وكمية الدم وسلامته...كانت الطامة والمفاجأة المروعة التي لم تكن في الحسبان, ولم تخطر على بال, يا لهول الصدمة التي تلقاها صفوان, فاجأه الدكتور معتذرا له بقوله: أنتَ مصاب لن نستطيع أن نأخذ منك الدم، أنت مريض بفيروس الإيدز وأشك أنك تجهل مرضك!.
لم يصدق صفوان ما سمع !! وقهقه ضاحكا بهستيرية مجنونة قائلا: لا تتهمني أيها الرجل!! لقد خانتك معرفتك, ليس بي شيء, لقد أخطأت لقد أخطأتُ تأكد مما تقول!!.
أخذ صفوان ورقة الفحص وذهب إلى الإدارة ليشكو الطبيب إليها، دخل على المدير وهو يلهث وقد تغير لونه, والعرق يتصبب من جبينه كأنه خرج مهزوما من معركة ضارية.
ـ لقد صدقك المختص ولم يسخر منك أنت مصاب بفيروس الإيدز فعلاً!!. سقط صفوان مغشياً عليه!! ثم أفاق بعد أن أراقوا عليه دلوا من ماء!!
انتفض من سريرٍ- كان قد وضع عليه بعد وقوعه ـ كالأسد متجها نحو غرفة الفحص يطلب إعادته, وبعد الإعادة كانت النتيجة كسابقتها..!
صعق وذاب كيانه وازدحمتْ صور الخيانة في مخيلته !! فانهارت قواه وشعر بانتكاسةٍ أطاحت به أرضا !!, انهار كل شيء في حياته ... كل ما بناه طوال عمره تهاوى أمام عينيه في لحظة, يا لحمقه وخيبته، كيف يصنع بمن ملَّكها عمره ووهبها حياته, فخانته وقتلته أبشع قتله, لقد أعماه الحب أن يراها على حقيقتها!!. هكذا حدث نفسه وسكب الشيطان بعقله سمومه حتى أصبحت وساوسه يقينا في مخيلته.
وفجأة انتفض انتفاضة المغبون نحو باب المستشفى..
واستمر لاهثا يسابق خطا الريح في شوارع المدينة متجها نحو منزله, لا يلتفت لشيء, كأنما يلاحقه الموتُ.
دخل البيت مسرعا وهرع إلى غرفة النوم ليأخذ مسدسا كان موضوعا في أحد الأدراج، وفجأة وثب أمام باب المطبخ كالوحش المفترس، عندها تسمرت سمية في مكانها، وتغير لونها وخنقت الفجيعة والعبرة أنفاسها، وكلماته تنهال عليها كأنها صواعق من السماء, فلم تسمع غلظة موحشة بهذه الصورة! هل هذا صفوان، ما الذي حصل؟!!.
كان صفوان يزبد ويرعد قابضا على مسدسه خلف ظهره، والزناد على إصبعه, لم يمهلها !! وسرعان ما وجه إليها فوهة المسدس وأطلق على الفور ثلاث رصاصات في صدرها النحيل, أردتها أرضا تتخبط في دمائها, وهي تقول: ماذا صنعتُ وماذا جنيت؟! وكانت آخر كلماتها: لمَ قتلتني؟! ما هي جنايتي يا... ؟! ولم تستطع إتمام الجملة.
سقطت بين دمائها وكانت تمد يدها كأنها تستغيثُ به لينقذها من صراع مرير, والموت يشظيها لينزع روحها من جسدها...خرجت روحها الطاهرة خرجت أنفاسها وعضت نواجذها العليا على شفتها السفلى وهمد الجسد وسكن فوق دمائها التي ملأت المكان.
خر صفوان جاثيا على ركبتيه مذهولاً غير مصدق أما يراه حقيقة أم كابوسٌ مفزعٌ؟
أخذ يقلَّب المسدس بين يديه ووضعه على رأسه ثم ضغط الزناد لكن المسدس أبى, فلم يعد فيه رصاص, لم يتمالك نفسه فانهار بجوارها كأنه ميت!.
وبعد هنيهة كأنما اهتدى لأمر... أدخل يده في جيب معطفه وأخرج التلفون وبصعوبة شديدة تلمس رقم الشرطة واتصل بهم يطلب حضورهم إليه.
هرَعتْ الشُّرطة إلى مكان الحادث, فوجدت ضحيتين، سمية وبجانبها زوجها صفوان، قام الضابط بتحريكه يمينا وشمالا؛
بأن به طلق ناري من شدة ما رأى عليه من إعياء، ثم أخذ إلى المشفى .
ظل الضابط عمر يتردد على المشفى يوميا تقريبا ليعرف من صفوان تفاصيل الحادث.
ــ أخبرني بكل ما حدث؟.
ظل صفوان مصدوما حائرا, تبين الضابط ذلك في امتقاع لونه وتغير ملامح وجهه, فتركه برهة ولم يثقل عليه بتكرار السؤال, حتى بدأ يسترسل بالقصة من بداية تعرفه على سمية وما صاحب ذلك من خشيته وخوفه من غواية ناهد لها, وعقب بقوله: و يا للأسف فكل ما كنُتُ أخافه حدث.
واستمر الضابط عمر بالتحقيق يريد أن يرسو على شاطئٍ، كأنه لم يقتنع بما اتهم به صفوان زوجته.
لذلك قرر التحقيق بعمق ليعرف أبعاد القضية وبدأ بناهد التي اتهمها صفوان بأنها هي التي أفسدت سمية وأغوتها.
تم استدعاؤها للتحقيق ومواجهتها بما اتهمت به لكنها أنكرت, وزكت نفسها بالطهر والعفة.
ـ صمت الضابط برهة, وهو يتحرك في أرجاء الغرفة يمينا وشمالا, ثم قال: أنت تنفين ما ادعاه صفوان، إذن لا بد من الفحص.
ـ أنا لا أسمح بمثل هذا الهراء الذي تقول، ولكن الضابط لم يعطها وجها, وأشار برأسه بأخذها, فتثاقلت وهي تصيح أريد محامياً هذا افتراء وظلم وعبث, لا أقبل هذا السفه, لن أذهب أبدا ..لا بد أن تحاسبوا على هذا التصرف غير القانوني .
حاصرتها الأدلة, وأرهقها التحقيق، فاعترفت بكل شيء, اعترفت بأنها هي من وضعتْ المخدر في كوب الفراولة, ثم حقنتها في وريدها بالفيروس، وانصرفت دون أن يشعر بها أحد, وأقرت بأن سمية أعف من عرفت في حياتها وهذا أحد أسباب غيرتها منها وجنايتها عليها.
أخذ الضابط عمر التسجيل, وأسمعه صفوان وقبل أن ينتهي التسجيل دارت بصفوان الدنيا وأظلمت في عينيه.. وقد تحركت كل ذرات جسمه وارتعش كالمحموم, وهو يستعرض مشاهد زوجته ورقتها وحسن توددها له, ومشاهد أخرى مفزعة كان آخرها وهي تستغيثه وتسأله بأي ذنب قتلها !.
ظلت الغرفة تدور به، وفجأة شعر باختناق شديد سقط من سريره على الأرض, ثم صاح صيحة مدوية, وشهق شهقة خرجت معها أنفاسه وفارق الحياة .
أمَّا ناهد فقد نالتْ جزاء جريمتها النكراء بما تستحقه, لقد أقيم عليها الجزاء العادل لفتكها بضحيتين.