قراءة في رواية
(قناع بلون السَّماء" للروائي "باسم خندقجي". فلسطين
بقلم الروائي. محمد فتحي المقداد
كتبت الأديبة منى عزالدين. في تعليقها على الرواية: "مبارك لحرف تلعثمت في قراءته القضبان؛ فعلّم الكون فلسفة الانعتاق".
لا شكَّ بصعوبة موقف الكاتب "باسم خندقجي" الذي يكتب من وراء القضبان، لا يُمكن تصوَّر حالة الضِّيق النفسي والقلق، وهو وراء القُضبان ومحكوم بالمؤبَّدات الثلاث، أمَّا سوء معاملة الأسرى الفلسطينيِّين نستطيع التحدُّث بما نشاء وبلا حرج، ومهما تعالى سقف حديثنا؛ فلن يبلغ مقدار عُشر الحقيقة على أرض الواقع.
فمن أهمِّ الصُّعوبات التي لا تُعدُّ ولا تُحصى، وعلى سبيل المثال قضيَّة إدخال الكتب المطلوبة للروائي، كما أنَّه استغرق من الوقت بالاشتغال على أفكاره لإنجاز روايته ستَّة أشهر في ظروف غاية في القهر، وعلى الأخصِّ لاحتياجاته الضروريَّة لكتابة المُسوَّدة، ومن ثمَّ تبييضها، وحتَّى تنطلق إلى رحاب الحُريَّة، وخارج نطاق السِّجن لا بدَّ من الالتفاف والاحتيال، لإيجاد طرائق لتهريبها للخارج، والإفلات من الرَّقابة الإسرائيليَّة الصَّارمة، والخوف من مُصادرتها.
أمَّا خارج السِّجن، فالاشتغال على تجميع هذه الأجزاء من الأوراق المُتفرقة والمُتناثرة لطباعتها على أجهزة الحواسيب ومراجعتها وتدقيقها؛ فأخذت وقتًا كبيرًا، كما أنَّها وصلت مجزَّأة عبر البريد الإسرائيليِّ، ومن خلال بعض الأسرى المُحرَّرين، وساعد في ذلك امتلاك عائلة "خندقجي" واحدة من أقدم المكتبات في نابلس، وإنتاجهم الكثير من أدب السجون.
فرحتنا بفوز الرواية يُعتبر انتصارًا آخر لسرديتنا كروائيِّين على العُموم،وللعرب والفلسطينيين على وجه الخصوص، يمكننا تمييز هذا الفوز من عدَّة أوجه جدير بالاهتمام والالتفاف إليها خلال مطالعة الرواية:
*الوجه الأول :أنّ باسم أسير حرية يقضي في السجن ثلاثة مؤبدات ويزيد.
*الوجه الثاني :أنّ الرواية هي جزءٌ من حربِ الرواية بيننا وبين عدونا.
*الوجه الثالث: أن حكومة الاحتلال وظّفت سرديتها منذ اليوم الأول لشنّها حرب الإبادة ضد شعبنا في قطاع غزة، ونَذْكُرُ، ونُذَكِّر كيف استدعى رئيس حكومة الاحتلال نصوصا تلمودية لشحن ضباط وجنود جيشه ضد كلِّ ما هو فلسطيني.
*الوجه الرابع: هو حملة التحريض ضد الكاتب عندما أعلنت لجنة تحكيم الجائزة أن رواية "قناع بلون السماء" دخلت ضمن القائمة القصيرة للمنافسة على الفوز بالجائزة، ووصفت كاتبها بـــــ"الإرهابي".
والقناع هو إشارة إلى "الهوية الزرقاء" التي وجدها نور، وهو عالم آثار مقيم بمخيم في رام الله، في جيب معطف قديم، صاحبها إسرائيلي، فيرتدي نور هذا القناع، وهكذا تبدأ رحلة الرواية السردية متعددة الطبقات التي يميزها بناء الشخصيات، والتجريب واسترجاع التاريخ وذاكرة الأماكن، بحسب بيان الجائزة.
ونأتي لقضيَّة الانتماء التي تُعتَبر ثنائيَّة الحياة المُرافقة للإنسان منذ ولادته حتَّى النِّهاية، ولا حياة إلَّا بانتماء إلى الأسرة الصغيرة أو العشيرة أو القبيلة.
بالمقابل لابدَّ للانتماء للمكان في مخيال كلٍّ منَّا، وباختصار شديد فما اصطلح عليه بــ"الوطن"، وهو المفهوم الشَّامل لمسقط للبيت والمدرسة والقرية والمدينة أو الدولة الكيان الكبير الضامِّ لهذه الكيانات الصَّغيرة، وفي هذه الأماكن رؤية النور لأوَّل مرَّة، وفيها من الذكريات والأحلام والآمال والأفراح والأحزان، فمن غير الممكن إزاحة هذه النقطة المُهمَّة في حياة كلٍّ منَّا، ولا يمكن أن يكون الإنسان غير منتمٍ، وهو ما أشار إليه "باسم خندقجي". وفي عبارة وردت: "إن المسكوتَ عنه هو مادتي الروائية"، ص54.
الدخول لمُعترَك الصِّراع بين قضيَّتيْن ورُؤيتَيْن وأيديولوجيَّتيْن مُتناقضتَيْن في سرديَّة روائيَّة واحدة، تُعالج صراع الهُويَّتيْن العربيَّة والإسرائيليَّة فوق أرض فلسطين، واحدة صاحبة حق تاريخي، والثانية مغتصبة مُدَّعية بأحقيَّتها، وكون الكاتب أسير فلسطيني؛ تشتدُّ مُعاناته وتضيق مساحات حريَّته لتتقزَّح بحدود زنزانته التي لا تُشبه إلَّا القبر في سجن جلبوع.
الرواية من المدرسة الواقعيَّة بجانب كبير منها، وفي الجانب التخيُّلي الآخر لضرورة تأثيث الحدث الروائي بمعقوليَّة مُقنعة للقارئ، وكون الكاتب يكتب من سجن فمن الممكن إدخالها في أدب السُّجون، ولا نفترض حياديَّة الكاتب، ولا يحقُّ لأحد مهما كان مُطالبة "باسم خندقجي" صاحب القضيَّة، وهو ابن الأرض وابن القضيَّة، وهو محبوسٌ من أجلها وعلى ذمَّتها؛ فلا شكَّ أنَّه يبحث عن التاريخ لاستقرائه، وإثبات أحقيَّته الأساسيَّة بامتلاك الأرض قبل مجيء العدوِّ الإسرائيلي الصُّهيوني الغاصب مع بدايات القرن العشرين، منذ إشهار وعد بلفور المشؤوم(1917)، ومن ثمَّ قرار التقسيم (181) الشَّهير ، بناء على الأمم المُتَّحدة1947 وذلك قبل 1948 بسنة واحدة.
من هذا لا يُمكن اعتبار الكاتب حياديًّا أو هو خارج عمله الروائيّ، إنَّما سيسوق كافَّة الحُجج والرِّوايات والحكايا والقصص التي تخدم وتؤكِّد حقَّه الأصيل، وتنفي أيَّ تاريخ قديم قبل ذلك للعدوِّ الصُّهيونيِّ قبل هذا التاريخ، وتُثبت الرِّواية رؤيتها وهي ترسم نضال الفلسطينيين وتضحياتهم من خلال الوسائل المُتاحة وتحاول في غير المُتاحة.
يقسم الروائي روايته إلى ثلاثة فصول: نور، وأور، وسماء
*الفصل الأول:
نتعرف إلى نور الذي يعيش في مخيم من مخيَّمات رام الله، ويعمل على كتابة رواية حول مريم المجدلية، ساعياً من خلال تخصصه في علوم الآثار إلى جمع أكبر قدر من المعلومات التاريخية حول الشخصية الرئيسية وزمنها وبيئتها؛ وإذ يشتري معطفاً من أسواق الثياب المستعملة يجد في جيب من جيوبه هوية إسرائيلية لشاب اسمه (أور)، ليجد نفسه أمام فرصة نادرة لخوض مغامرة الدخول إلى المستوطنات والكيبوتسات مع بعثة أثريَّة، بصفته (أور)، مستفيداً من سحنته ولون عينيه ولونه الذي يشبه يهود أوروبا "الأشكناز".
*الفصل الثاني
الذي يتمكَّن فيه، بصفته أور لا نور، من الانضمام إلى بعثة أثرية تنقيبية، غايتها البحث الأثري حول الفيْلق الرومانيّ السَّادس، وهناك يتعرَّف إلى "أيالا شرعابي" اليهوديَّة.
*الفصل الثالث
يبدأ مع ظهور سماء إسماعيل الفلسطينية الحيفاوية التي تحمل هوية إسرائيلية، لتبلغ الصراعات ذروتها: صراع أيالا مع سماء التي لا تتورع عن التعريف بحقيقة قضيتها العادلة أمام أفراد البعثة الأجانب، وصراع بين أور (نور) وسماء التي ترفض سعيه إلى تهدئتها، بالإضافة إلى صراع داخلي يعانيه البطل بين أصله (نور)، وهويته المؤقتة (أور)، حتى يقرر الاعتراف لسماء بحقيقته التي ترفضها في البداية، ولكنَّها بعد ذلك تقبلها؛ حين تتأكََّد من أنَّه ابن جِلْدتها، وابن قضيَّتها، وحليفها في الرؤية؛ بينما يؤكد لها في نهاية السرد تمسكّه بخيار الهويَّة الفلسطينيَّة لديه، حين يقول: "أنتِ هويّتي ومآلي".
وبعمله الروائيّ لجأ الكاتب إلى لُعبة سردية، وهي تقنيَّة مُستخدمة سابقًا، تتَّضح معالمها من خلال كتابة البطل رواية داخل الرواية، وفي تعبير لطيف للأستاذ "يوسف حطِّيني" بخصوص ذلك: "للكاتب أو يتحدّث عن صناعة الرواية داخل السرد؛ إذ يخبرنا السارد نور في مفتتح القسم الأول بأنه سيصنع عالمه الروائي الخاص، وسيكتب رواية يواجه بها الرواية المضادة؛ محدِّداً في تخطيط سردي واعٍ زمنين: زمن حاضر، بطلُه فلسطيني اسمه نسيم شاكر، وزمن ماض، بطلتُه مريم المجدلية، وحولها بعض التلاميذ والرسل، ورجل اسمه سمعان، يبتدعه الروائي من خياله".
وفي الختام:
يعتبر فوز رواية "قناع بلون السَّماء"، انتصارًا لعالم السَّرد والرِّواية على العموم، وسيُسجِّل سطرًا مُضيئًا في سجلِّ القضيَّة الفلسطينيَّة، والفوز مُشجِّعٌ لكلّ صاحب قضيَّة مثلي أن يكتب بهمَّة بلا ملل عن قضيَّته كي تبقى حيَّة في عيون وقلوب الأجيال، باستقراء تقاطعات عوالم واسعة ما بين الحاضر والماضي، في محاولات حثيثة من للكشف والمُكاشفة بملامسة حالات مُباشرة وغير مُباشرة مع الآخر (العدو. والدكتاتور) المُختلف بكلِّ وسائله وطُرقه.
كما أنَّ إنصاف الضحايا والمظلومين والمُشرَّدين والمُعدمين والمُعذَّبين، بإعلاء النَّظرة البعيدة بمسحتها الإنسانيَّة، وفصح أساليب الإجرام والقتل والتشريد الواقعة علينا كما هي واقعة على الآخر الذي نتقاسم معه العذاب والحرمان، كي نجعل من القضيَّة الفلسطينيَّة منارة إنسانيَّة للكوارث الاستعماريَّة الظَّالمة والتي تكيل بمكياليْن، وتُساوي ما بين الضحيَّة والجلَّاد.
وفي النهاية فإنّ رواية "قناع بلون السماء" لباسم خندقجي"؛ تنتصر للحق الفلسطيني في مواجهة زيف الدعاية الإسرائيلية، وقد نجحت في خلط الأوراق، وإعادة ترتيبها وفق رؤية حاذقة بمحاورة الآخر المُتسلِّط والمُتجبِّر، صارعته وحاورته دون أن تسقط في مهاويه الهابطة، ولم تسقط أيضًا في شِراكِه المنصوبة للإيقاع وإسقاط كلِّ شيء.