الشجرة ذات الرائحة الزكية
قصة بقلمي
الزحام شديد، الوجوه متعددة الأشكال، والأعمار والملامح.كتل بشرية لزجة؛ رجالا ونساء، شيوخا ،وشبابا، صبية وصبايا، أطفال ورضع؛ سيل منهمر من البشر يزحفون نحو محطة المدينة المكتظة بكل وسائل النقل من حافلات وسيارات ، وعربات ، وتكاتك،وكل مركبة تدار بالوقود، أو تجر بالخيول أوالبغال أوالحمير.
لعل المدينة راحلة، ولكن إلى أين، إلى أين يغادر ذلك السيل من البشر؟؟
فرغم أن حالة الضيق الاقتصادية قد أرخت بثقلها على المكان بشرا وحجرا. ولكن تلك المدينة التي اعتادت عبر تاريخها ، وكل أجيالها، على أيام سود ،وسنين نحسات، بين حرب وكرب، ومظالم ، وعلى أسعار، وبطالة، وشدة ، إلا أن لا أحد قد فكر في مغادرة المكان، ربما صبرا أو عجزا..
هنا تقف على حقيقة الأمر غير مندهش ، حين تدرك من همسات الناس، أنهم ذاهبون إلى هناك، حيث الشجرة ذات الرائحة الزكية.
&&&
حشرت جسدي مع من انحشروا في حافلة صغيرة ،ضيقة ،يقودها شاب نحيل ، تبدو من فمه بعض أسنان مهشمة مصفرة، يتدلى من بينها بقايا سيجارة رخيصة، ينفخ دخانها كريه الرائحة من منخريه، وبدا وجهه لي ،وهو يلقي بتعاليمه للركاب بصوته المشروخ، كأنه قاطرة قديمة لقطار متهالك يقاد بالفحم والدخان.
- الباب يا افنديا .... ادخل يا أستاذ .. وسع له جنب يا أخينا ... الله يخرب بيوتكم في الصباحية المنيلة دي!!!
كانت وجوه الركاب مسبلة العينين، هادئة الملامح، هامسة الشفاه، بدعوات وتمتمات خفية، تخرج مع أنفاس متقطعة :
- بركاتك يا شجرة.
بمجرد أن اتخذت الحافلة الصحراء مسارها على الطريق،حتى تواردت لمسامعي، أحاديث الهمس بين الراكبين.
- نعم ،نعم لقد شاهده الناس هناك عند الشجرة المائلة.
- لقد تجلى مرتين، عند الغروب وقبيل الفجر.
- لقد سلم عليه البعض، وقام بمسح روؤسهم.
- لي ابن عم شفي تماما من برصه.
- يا عالم دي كلها خرافات.
)كاد الجميع أن يفتكوا بالرجل.)
صارخين في وجهه: إخرس ..
لا .. لا .. ليست خرافات.
والدليل أن رائحة زكية تعم المكان ، بل وتهب على أطراف المدينة كل ليلة.
- نعم نعم .. نحن نشم الرائحة كل ليلة.
- وهذا ما دفع الناس نحو الشجرة المائلة.
- الروائح الزكية التي يتركها المبروك. إنها الكرامة واضحة.
- نعم نعم ... رددها شيخ متهالك، راح يتمتم بها ، وقد أجلس حفيده المجزوم على ركبتيه.
- درنا به على أطباء البلد بلا فائدة.
مصمص الركاب شفاههم.
تململت شابة جميلة نصف بدينة.. شوية كدة يا أخينا انت ساند علي كدة ليه؟؟
- يا بنتي هو أنا قادر اصلب طولي .. مش شايفة الزحام اللي احنا فيه.
لم تعره ردا ، وقد أستدارت بوجهها نحو النافذة، مستغرقة في حلمها الذي غاب لسنتين منذ زواجها؛ كل رفيقاتها حملن بعيد شهور من زفافهن، إلا هي فقد جفت نضارتها صبراوانتظارا. فهل يصبر زوجها المقتدر عليها؟ أم يمزق قلبها بزوجة جديدة تعطيه الولد والنسل؟! لعل الشجرة ورائحتها الزكية، تنتشلها من أزمتها.
$$$
كان يهمس لنفسه، وقد تحاشى قدر إمكانه ألا يلتصق جسده بجسدها في الممر الضيق للعربة المكتظة بالركاب.
سنوات وسنوات بعد تخرجه من الجامعة، وهو يمارس أعمالا شاقة، لا علاقة لها بمؤهله المتخصص في الجغرافيا، مهام لا تدر عليه قدرا من الرزق يوازي ما يعانيه من مشقة . ووراءه أب قعيد وأم مريضة وعيال،لن يتخلى عن مسئوليته أبداً في أداء واجبه نحوهم، بعد أن علموه تعليما عاليا بما يمتلكون من الكفاف.
استعاد إلى مسمعه دعوات أبويه له بالتوفيق. لعل بركات الشجرة ذات الرائحة الزكية، تفتح له باب عمل ورزق حلال.
$$$
مسنة، على وجهها سمات جمال ماض، كان همها كبيرا ، وهي تجتر أيامها، رحل الزوج بعد كفاح مضن،مخلفا راتبا تقاعديا هزيلا.وبقى في عنقها ثلاث إناث يطلبن معيشة، وتعليما،وزواجا وسترا من أين لها أن تسد كل تلك الأعباء؟ وأخ منبطح على أرضها ، من ميراث أبيها. لا يريد حتى أن يظهر ورقة تثبت حقها.هل يمكنها أن تخسر روابطها مع شقيق رحمها. وها هي تدور وراءه حقها في المحاكم دون جدوى
لمن تشكوه، ولمن تلجأ؟!
عيناها تترقرقان بالدموع.
$$$
ها هي تنتظر، وقد طال انتظارها؛ فأمست كعود ذابل، في نهايته وردة منكمشة الأوراق.أنثى نعم، ولكن غاب عنها الجمال!!
قريناتها غبن عنها ، وتفرق جمعهن،بعيد زواجهن. سنوات شبابها توغل في متاهات الانتظار، ربما لعريس لم يولد بعد.تأكلها الوحدة،وتشرب هي دموع انتظارها الطويل.وقد ملت دورانها حول مقامات وأضرحة الموتى, وسئمت نفسها غثيانها في غيابات بخور الدجالين!!!
يا بركة الشجرة ذات الرائحة الذكية. لعلها بشير بفتح الأبواب .
$$$
- أذكروا الله ...
- صاح بها ملتح مغمض العينين.
- تمتم البعض بشيء ما، وصمت الكثيرون.
&&&&
العربة تحط رحالها في مكان ازدحم بغيرها، وحشود تتلاطم في سعيها نحو الشجرة المائلة،التي بدت جزعا أجوف نصف منتصب، ملتوى نحو الأرض على تلة من التراب، وقد بان حولها بقايا سائل أخضر قوي الرائحة، مختلطا بطين الأرض، هتف الناس بالدعوات، ملتمسين البركة والفرج، وأخذت الأصوات تلهج بالدعاء حتى بلغت حد الصراخ.
-على حين اصطف شباب على شكل دائرة، مكونين سلسلة متشابكة الأيدي حول الجزع المائل ،حتى لا تهجم الحشود الصاخبة. فبدا المكان منظما،وقد التزم الناس خاشعين أمام ذلك النظام، التزاما صارما، وعيونهم تمتد في وله وعشق صوفي ، كي تستطيع أن ترى ذلك الجزع المائل، مستنشقين الرائحة الزكية التي عمت المكان، وهام الجمع في نشوة غامرة.
وبعد ساعة من الغروب، عادت الحشود إلى بيوتها، يحملون آمالهم وأحلامهم ، أجنة في بطون وجدانهم، انتظارا لميلادها في واقع جديد.
$$$$
في بيان رسمي أعلنت السلطات المختصة ما يلي:
(أن ما أشيع حول وجود شجرة ، وشيخ مبروك ينجلى، ورائحة زكية مباركة، أمر لا أساس له من الصحة، وقد استغله بعض العاطلين، والنصابين، لابتزاز المواطنين الأبرياء. أما حقيقة الأمر فهو أن إحدي شركات تصنيع مواد التنظيف قد اعتادت أن تلقي بمخلفات مصانعها في تلك البقعة من أراض بور، مهملة ومهجورة، وهو الأمر الذي أدى إلى انتشار تلك الروائح من بقايا الكيماويات المستخدمة في صناعة الصابون, هذا وستتخذ السلطات المختصة كافة الإجراءات القانونية والصحية ،لمنع تكرار تلك المخالفات.)