الحارس
قصَّة قصيرة
بقلم. محمد فتحي المقداد
دَوَامُه يستغرقُ معظم ساعات نهاره، وجزءًا من اللَّيل. الحارسُ جالسٌ لا يتزحزح عن كُرسيِّه الحديديّ المُتهالك الصَّدِئ، الذي اِسْتبدَّت عوامل الزَّمان به، وعبثت بلونه المَمْحِيّ لم يبق من طلائه الباهتٍ إلا بُقَعًا متناثرة؛ يصعُب تحديد أو تمييز لونه الأساسيِّ.
رغبته الدَّائمة في الجلوس في زاويته الحصينة على رأس الدَّرَج ذي الدَّرَجات الثلاث، أمام البوَّابة الرَّئيسة لمقرِّ اِتِّحاد الفلاحِّين. المَلَل يكتنفه. عيناه ناشطتان بحركاتهما الدَّؤوبة بلا توقُّف، السَّاهمتان في مساحات من الفراغ.
نظراتُه تفضح شيئًا غامضًا يتسرَّب إلى ملامح وجهه. أنفاسُه تخرجُ مُتَحْشرِجةً من فُتحتيْ أنفه الواسعتين باِنْتظام كمدخنة القطار، وهو ينفثُ دخان سجائره باِسْتمرار. إلَّا إذا قام لتأدية أيَّة حاجة تُصبحُ لاهثة مُتقطِّعة مثل سيَّارات الاتِّحاد العتيقة، التي من المُفتَرَض أن تكون في مَقبَرة السيَّارات منذ سنوات مَضَت، إلَّا من سيَّارتيْ رئيس الاتِّحاد ونائبه، والأقلّ جودة منها لأعضاء مجلس الإدارة.
جمجمة الحارس (أبو فكري) الضَّخمة مُتناسبة طَرْدًا مع تقاطيع وجهه الصَّارمة، موحية بالتوجُّس والخوف. العابرون يُشيحون بنظراتهم عنه، إذا شعروا بحركة أو أدنى اهتزاز من رأسه، أو اِنْتبهوا له.
عندما قرَّرتُ العمل ببيع الجرائد على الرَّصيف في هذه الزَّاوية، منذ أوَّل ساعة اِنتبهَ لوجودي الطَّّارئ، فنادى عليَّ: "تعال يا ولد بسرعة". فوجئتُ بنبرة صوته الرَّفيعة غير المُتوقَّعة، المُغايرة لشكله الضَّخم المُخيف، المُوح وبلا أدنى شَكِّ بِفظاظة شبيهة بسُلْطة ذوي النظَّارات والمعاطف السَّوداء الصّارمة. كلماتُه داهمت سمعي بِقوَّة هبَّطت من عزيمتي؛ فلم يكُن لديَّ أيَّ خَيَار إلَّا بالاِمْتثال لأوامره.
بلا وعيٍ منِّي ناولتُ الزَّبون جريدة، ولا أدري أين وضعتُ ثمنها، وعلى الأغلب أنَّني لم أتمهَّل لاستلام ثمنها، تأكَّدتُ بعد عودتي لزاويتي.
بخطوات سريعة هَرْوَلتُ إليه، اِخترقتُ مسارات السيّارات العابرة ذات السُّرعات المُنخفضة، غير آبِهٍ باحتجاجات سائقيها وشتائم بعضهم، ولم أتوقَّف أمام سيَّارة فارهة؛ لأعتذرَ لذلك الشابّ الوسيم بعد أن داس على المكابح بقوّة، ممّا أثار رائحة اِحْتراق الإطارات، أصوات صريرها على الإسفلت لم تمنعني من مُتابعة ركضي نحو الحارس. أذكُر أنَّ عاصفة من أبواق السيّارات ثارت فجأة ثمَّ هدأت.
ما إن وطِئتُ بقدمي حافّة الرَّصيف قريبًا منه، لا تفصلني عنه إلّا بضع خطوات، حتّى أصدر أمرًا آخر:
-"هيَّا اِقترب إلى هُنا" ويُشيرُ بيده كإشارة المايسترو الجامدة بالوقوف أمامه. بنبرة جافَّة من صوته الأجشِّ تابع بسؤال جديد: "ها.. ما اِسْمكَ يا ولد؟".
بصُعوبة اِستطعتُ نُطْق اسمي بسبب نَشَفان ريقي: "أسامة".
هزَّ رأسه بحركات، وأردفَ: "هل تدرُس، وفي أيِّ صفِّ أنت؟".
-"نعم سيدي. سنة أولى أدب عربيّ".
-"أبوكَ شو بيعمل؟".
-"والدي أعطاكَ عمره".
-"منذ متى؟".
-"من عشر سنوات تقريبًا".
ما زالت حركاتُ رأسه تُحرِّكُ مزيدًا من الأسئلة والأفكار هكذا شعرت..! بنفسي لو أستطيعُ اِسْتقراء ما يدور في ذهنه..! حتَّى أهيِّئ الإجابة التي أظنُّ أنَّها تُعجبه على الفوْر. يا ربِّ.. ألهمه أن لا يطردني، ويتركني في مكاني، لأنَّه على مُفتَرَق طُرُق؛ بتوافق تمامًا مع نصيحة أمِّي: (الرِّزقُ عند تزاحُم الأقدام).
-"يا أسامة كلَّ يوم بِتْجِيب جريدة الثَّوْرة وتشرين لعمَّك (أبو فكري)، وبترجع توخذهم بعد ما أطَّلع عليهم..مفهوم؟ ".
اِلتَقطتُّ أنفاسي، وهدأت ضربات قلبي قليلًا؛ واستجمعتُ بقايا من شجاعة ساخت كماء على الرَّمل، لا أعرف إن كان التوتُّر والاِرتباك انتشر على ملامحي، بسرعة البرق أحضرتُ طلبه:
-"حاضر عمُّوه. خُذ. هاي جريدتيْن".
-" شكرًا يا أسامة". فهمتُ من كلمته الأخيرة، أنَّه أَذِنَ لي بالاِنْصراف رجعتُ إلى مكاني والطُُّمأنينة تُسابقني إلى ظلِّ الشَّجرة الوارفة طيلة فُصول السَّنة، عدا الشِّتاء حصرًا. الحمد لله أنَّ ملاحظته لي أثبتَتْ شَرعِيَّتي باِمتلاك الحقِّ بممارسة نشاطي هنا.
تأمَّلتُ من بعيدٍ بلقطة بانوراميَّة، وتخيَّلت وقوفي أمام (أبو فكري)، وصورة السيِّد الرَّئيس ذات المساحة الكبيرة بنظراتها الحادّة من فوقه، والمُتربِّعة على واجهة اتِّحاد الفلّاحين. اِسْتعاد قلبي طمـأنينته، وعادت نبضاته لوضعها الطبيعيِّ، أيقنتُ بأمان المكان؛ لشعوري بأنَّه تحت السَّيطرة. انتشاء وارتياح أعصابي؛ انطلقت أحلام الثّراء تتواثب مع انشغال ذهني بالتخطيط للمستقبل.