ذهبت وهى تلتفت إلى وتشير بيدها ملوحتا بإشارة لا تخفى على أحد (وداعا)
والدموع تنحدر على وجنتيها ,وهى تخفى عيونها بتلك النظارة السوداء التي تضعها .
ركضت خلفها وأمسكت بيدها وقلت لها:
إلى أين ؟؟
إلى أين ؟؟
نظرة إلى نظرة المتكلم الصامت! وكأنها تقول لي:
أتركني ليأسى وأحزاني .
ومضت حتى غابت في الزحام.
هذه كانت أخر مرة أراها فيها , وانقطعت عنى أخبارها اللهم إلا بعض من الرسائل التي كانت تأتى إلى كل حين وحين.
إحدى هذه الرسائل كانت تتحدث فيها عن صعوبة العيش وتأثرها بقصة زواج فاشلة وعدم قدرتها على التأقلم مع واقعها الجديد ,وبأنها تشعر بحالة من اليأس والضيق , كنت أرى دموعها بين كلماتها وهى تتحدث عن العذاب والألم وحاجتها إلى من تتحدث إليه ويأخذ بيدها من هذا السجن الذي تقبع فيه وهو (اليأس ) .
قالت في رسالتها:
يقولون ياسيدى بأن العذاب لونه أسود وأشلائه ممزقة وان له عينان باهتتين ,أما بالنسبة لي فالعذاب أن أرسم صورة حبيبي في مخيلتي وألونه بدمى وأبنى له قصرا في دنياى ,وفجأة يهوى القصر وتمحى الصورة من براويز عمري وأصبح أبحث عن ملامح وجهه ولا أجدها.
انى برغم الحزن الذي يسكن نفسي فصوتي يناديك مستغيثا لعل صداه يصل مسامعك وانى ضائعة بين اليأس والذكرى .
فالأسى يعتصرني , فأنا كغريق فقد الشاطئ وظل مرسى الآمان لقد غرقت سفيتنى من حيرتها بين الوصول وبين الضياع.
لقد ضاعت أحلامي الجميلة يوم ابتعدت عن أحبتي ,فبرغم ماحل بيني وبين من أحب فاني لزلت أحبه , ولزلت أسيرة الأيام الجميلة ولزالت صورته في مخيلتي وطيفه يزورني في المساء ,فمن أحب بصدق قلى بربك كيف يكره من يحب , وان كثرة على نفسي الجراح وصار طعم الفرح علقما لا يستساغ
فاني لزلت أحبه وأفضل الابتعاد ,وهاأنا أستغيث بك فأغثني .
هذا كان جزء من رسالتها ,وهى عادة ما تختم كلامها بتوقيع (عاشقة القمر)
عندها أمسكت القلم وكتبت هذه الكلمات في رسالتي إليها وبعثها إليها وكان ردى كالآتي:
سيدتي عاشقة القمر:
إن لكلماتك لمفعولا لو أعطى للمرضى لمنحتهم الشفاء , فهي ليست بضع كلمات على بضع أوراق , بل إنها عندي إنما هي أنفاسك المعطرة بما في قلبك من حب وعشق ,فان انتى همستي بها إلى قلمك الساحر ,فيا له من شرفا لهذا القلم حتى يخط على الأوراق كلمات ليست كالكلمات , إن أسلوبك في الكتابة رشيقا كرشاقة الغزلان ,ورقيق كرقة الورود,
وبه من المعاني ما يجعل كل من لم يؤمن بالحب يخضع لسلطانه.
لقد أخرجتني كلماتك عن صمتي الذي كنت فيه , وجعلتينى لأول مرة أكتب إلى امرأة حيرتني بجمال عقلها وعزة نفسها , كما حيرتني بلقبها , فياعجبى وهل يعشق القمر نفسه؟؟؟
فان انتى تحدثتى عن العذاب فاني أقول لكي: ما أجمله من عذاب هذا الذي تصفينه ,فهو أن كان بالوصف عذاب فهو في الحقيقة رحمة وعطف وحب ,تبتعدين بدلالة الوصف عن الموصوف وكأنك تحاورين نفس أخرى
تسكن إليها نفسك , وأعلمي بأن الأحزان إن سيطرة على قلب العاشق جعلت
ليله نهار ونهاره ليل, وأخرجته من دنيا الأحلام إلى عالم الكوابيس .
فيضيع وهو ضائع ولا يجدي عندها الندم.
فالإنسان لا يقدر قيمة الشئ إلا إذا فقده ,وان كابر على الألم فانه يكون كمن استبدل نعيمه بالشقاء وراحته بالتعب والسعادة بالتعاسة والوصال بالجفاء.
ولكن دعينى أسألك هل بالابتعاد تعالج الأمور ؟؟
وهل بالابتعاد تتحقق الغاية ؟؟
إن من العذاب ما يكون للإنسان نعمة.
وان من النعيم ما يكون للإنسان نقمة.
وان من الحب ما يكون أوله الألم وشقاء وأخره نعيم وهناء ,فإنما القلوب مساكنا للأهل الحب والتسامح ,ويبقى الصدق زينة ذالك الحب .
كثير منا لا يشعر بالسعادة وان هيئ له انه قد ملك الدنيا , فالمرء منا يبتسم وهو
يدارى عن الآخرين أحزانا تعتصر في نفسه , ولكن تبقى السعادة
كما وصفها الأديب والمفكر الراحل (مصطفى صادق الرافعى):
(هي كل ما استشعرت النفس أنها زادت به أو زادت فيه) وهذا التعريف يجمع
كل أنواعها لا يشذ منه شئ ,فهي على ذالك تكون في الأخذ وتكون في العطاء
ألا ترى الأصل الطبيعي في الحب يجعل سعادة ما يناله المحب من حبيبه كسعادة ما يبذله له ,حتى انه ليبذل روحه في ذالك إذا علم إن نفسه تزيد بها شأنا عند من يهواه.
وعكس ذاك تكون التعاسة في كل ما استشعرت النفس أنها نقصت به أو نقصت فيه, ومن ثم فكل فضيلة هي السعادة وكل رذيلة هي من ضدها
ولو كان الألم والحرمان في الأولى وكانت اللذة والمنالة في الثانية , وهكذا
هي الحياة لا تعطيك إلا بقدر ما تأخذ منك, ولا تمنحك إلا لتحرمك.
واذكر هنا ما قاله المفكر (لازاريس) عن التفاؤل :
(أضئ النور وأسمح لشمس حياتك أن تسطع ,إن ذالك سيلهم الآخرين
الذين سيلهمون مجموعة أخرى,وبذالك يعم النور والضياء في حياة الآخرين.)
فدعي الماضي ينير الحاضر ليصبح المستقبل أجمل.
فليس الفخر أن لا نسقط بل أن ننهض كلما سقطنا.
فعلى قدر صبر المرء منا يكون الابتلاء , فتمسكي بالصبر وبالأمل
عسى أن يجعل الله لك مما انتى فيه مخرج.
وللحديث بقية.
والسلام ختام.